بعد 111 سنة من إحراز أول ثنائي متزوّج لجائزة «نوبل»، وكانت حينها في عامها الثالث، نال الزوجان النروجيّان ماي- بريت وإدفار موسير جائزة نوبل للطب (كلاهما من «جامعة النروج للعلوم والتكنولوجيا» في مدينة تروندهايم)، مناصفة مع الأميركي- البريطاني جون أوكيف، وهو يدير مركزاً متخصّصاً بالعلاقة بين الأعصاب والسلوك في «كلية لندن الجامعيّة». وتركّزت بحوث الثلاثة على الدماغ، خصوصاً الخلايا التي تمكّن المخ من تحديد المكان الذي يكون صاحبه فيه، بمعنى أنها تشكّل ما يشبه نظام التوجيه بالأقمار الاصطناعيّة أو ال»جي بي أس» GPS، في الدماغ. وتتصل تلك البحوث بالسعي للتعمّق في معرفة العلاقة بين التفكير والدماغ من جهة، وإيجاد علاجات لعدد من أمراضه، خصوصاً «ألزهايمر» الذي يشكّل عدم التعرّف إلى المكان والمحيط (وكذلك الزمان والأشخاص) إحدى أبرز علاماته. يتبادر إلى الذهن أن جائزة «نوبل» تبدو كأنها تفاعلت مع إحدى أقسى أزمات الأزمنة المعاصرة وأشدها عمقاً وتشعّباً، وهي تلك المنعقدة بين الطب والعائلة من جهة، والدماغ من الناحية الأخرى. ففيما نجح تقدّم علوم الطب الحديث في إحداث طفرة في معدلات الأعمار، أدّى ذلك الأمر إلى بروز ظاهرة «تشييخ المجتمعات» (بمعنى تكاثر «أصحاب الشعور البيض»، على غرار تكاثر «أصحاب الياقات البيض» في مجتمعات ما بعد الصناعة). صار الطب قادراً على التعامل مع مجموعة كبيرة من الأمراض ما زاد معدل عمر الفرد، لكن الأمر نفسه أدى إلى وصول مئات الملايين إلى أعمار متقدّمة. ولأن الطب لم يجد حلاً لمسألة تقهقر أداء الدماغ مع العمر، تعاني «المجتمعات المتشيّخة» من تكاثر أعمار من يعانون الخرف بأشكاله المتنوّعة (أبرزها «ألزهايمر»)، مع ما يفرض ذلك من توفير رعاية مناسبة ومؤسسات كفوءة في التعامل مع تلك الظاهرة التي تكاد تشكّل ملمحاً مميّزاً للمجتمعات ما بعد الصناعة والحداثة. واستطراداً، أدى تطوّر المجتمعات، خصوصاً في الدول التي تشهد ظاهرة التشيّخ، إلى انحسار دور الأسرة (أحياناً تلاشيها)، خصوصاً عدم قدرتها على رعاية من تقدّم به العمر وتدهورت قدراته عقله بأثر من «ألزهايمر» وغيره. فلسفة كانط إذاً، منحت «هيئة نوبل» في «معهد كارولينسكا» في السويد، جائزتها للطب وعلم عمل الأعضاء («فيزيولوجيا»)، إلى أوكيف العالِم النيويوركي المولد (1936). ومنذ مطلع السبعينات من القرن العشرين، ركّز أوكيف عمله على قوس من الأعصاب الحسّاسة يسمّى «الحصين» Hippocampus. يظهر «الحصين» على هيئة حصان البحر، ويحيط بالقسم المركزي الداخلي للدماغ (يطوّق المهاد وما تحت المهاد والغدة الصنوبرية، حيث المراكز التي تدير الأجهزة الحيويّة وتتحكّم في هرموناته)، كما يشكّل جزءاً مما يسمّى «الجهاز الحافي». وسجّل أوكيف سبقاً في أنه حدّد تلك المنطقة بوصفها «أرشيفاً» للذاكرة الطويلة الأمد، وكذلك تلك المتّصلة بالعواطف، كما أنها تعمل كنظام رادار يعرّف الدماغ إلى جغرافيا المكان ومكوّناته، أي أنه جهاز للتعرّف إلى المحيط. بقول آخر، يشكّل التعرّف إلى المكان ورسم خريطة للحيز المحيط بالإنسان، قدرة أساسيّة للدماغ، لا شيء يكتسبه بالتعلّم. وبذا، أعطت بحوث أوكيف تأييداً لرأي الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط عن ذلك الموضوع، وهو جزء من نقاش فلسفي عن علاقة الدماغ بالمعرفة. وفي مطلع القرن 21، تابع الزوجان موسير بحوث أوكيف. واستطاعا تحديد الأعصاب التي تتولى رسم خريطة مجسّمة عن المكان في الدماغ، ثم تتولى توجيه حركته في الحيز الذي ينشط فيه، فتكون نوعاً من «جي بي أس» داخل الدماغ. وسجّل الزوجان موسير أنهما خامس متزوجين ينالان نوبل، بعدما كان بيار وماري كوري أول زوجين ينالان الجائزة معاً، ثم كرّرت أبنتهما إيرين الأمر نفسه مع زوجها فريدريك جوليو (1935)، وتلاهما كارل وغيرتي كُريي (1974)، وغانر وآلفا ميردال (كل منهما على حدة، في 1974 و1982).