بعد نحو عشر سنوات على التغيير في العراق وعلى رغم تجربة مرّة شهدتها البلاد في حرب طائفية استمرت ثلاث سنوات واستهدافات مستمرة من تنظيم «القاعدة» لإسقاط العملية السياسية وفرض دولة اسلامية كنظام بديل، إلا ان قضية تطوير الجهد الاستخباراتي وبناء منظومته التي تعد شرياناً حيوياً للجيش والقوات الامنية الاخرى، ما زالت تثير لغطاً كبيراً داخل الاوساط السياسية والعسكرية. ومع استمرار الهجمات الدموية باستخدام الانتحاريين والحديث المتواصل عن وجود «القاعدة» وعدم استئصالها، يرى اعضاء في لجنة الامن والدفاع النيابية، ضرورة التركيز على الجهد الاستخباراتي المضاد لاختراق الشبكات الارهابية، مشيراً الى ان الحكومة لم تولِ هذا الجانب الاهتمام الذي يستحقه لما له من اهمية في تفكيك الخلايا المسلحة، وأن الخلل الرئيسي في الاجهزة الامنية هو المنهج والخطط المتبعة، معتبرين مواجهة التحديات الامنية حرب معلومات يعتمد على جمعها من مصادر مدنية من خلال تجنيد اكبر عدد من المتعاونين وليس الاعتماد على الجهد التعبوي وانتشار الجيش والشرطة في مراكز المدن فقط. جانب آخر من هذه الرؤية يشدد على ضرورة انتهاج استراتيجية استخبارية تعتمد على عناصر من خارج المنظومة الامنية لمساندتها في جمع المعلومات وتمكينها من اختراق الشبكات الارهابية من خلال رصد اوكار الارهابيين وكشفها بسهولة. كما يتطلب هذا الامر سرية عالية وارتباط هذه الخلايا بالقيادة العامة، وينفذ من جانب ضباط محترفين مهنيين معروفين في تاريخهم الوطني لتشكيل خلية العمل الاستخباراتي المضاد. وأُثير هذا اللغط بعد سلسلة تفجيرات استهدفت أسواقاً شعبية في بغداد ومناطق اخرى من البلاد اوقعت الآلاف من الضحايا غالبيتهم من المدنيين. وتعددت الاسباب التي يسوقها السياسيون وفق رؤية كل جهة. فقد عزا النائب حسين غيلان، عن كتلة الاحرار التابعة للتيار الصدري تكرار الخروقات الامنية الى وجود عناصر من حزب البعث في الاجهزة الامنية وكون «غالبية القادة الموجودين في هذه الاجهزة هم من أعضاء الفرق والشعب السابقين في الحزب المنحل». وسبق ان اعلنت هيئة المساءلة والعدالة في قرارات عدة لها «اجتثاث» المئات من ضباط الجيش والشرطة والاستخبارات المدنية والعسكرية بينها ما نشرته «الحياة» في شباط (فبراير) 2010 عن القرار الذي شمل 376 ضابطاً رفيعاً، بينهم الفريق الأول الركن عبود قنبر المالكي معاون رئيس اركان الجيش للعمليات، والفريق الركن عبدالله محمد خميس الدفاعي، معاون قائد القوات البرية، وقادة عمليات نينوى والفرات الاوسط والمفتش العسكري العام، اضافة الى قادة كبار، بينهم قادة فرقة المشاة الثانية عشرة والمشاة الآلية التاسعة ومدير الاستخبارات العسكرية ومعاون قائد عمليات الأنبار. وعزا نواب من «كتلة المواطن» التابعة ل «المجلس الاعلى الاسلامي العراقي» بزعامة عمار الحكيم في اكثر من مناسبة، تراجع أداء اجهزة الامن من الجيش والشرطة الى عنصر آخر يتمثل في استشراء الفساد في وزارتي الداخلية والدفاع. وأكد النائب محمد اللكاش اخيراً، على خلفية هجمات طاولت عدداً من أحياء بغداد نهاية شباط الماضي ان «الفساد المستشري في الداخلية والدفاع سبب في إرباك الوضع الأمني وعدم قدرة القوات الأمنية على الحفاظ على الأمن في البلاد». اتهامات مبررة الاتهامات تستند الى مجموعة حقائق واقعية تعيشها المؤسسة الامنية على مستويي القوة والمعلومات، وما يدعم ذلك على سبيل المثال ان المعلومات الامنية تُسرب الى الاعلام قبل وقوع الحوادث بأيام او بساعات. فمثلاً، قبل 10 ساعات من وقوعها، نشر مدوّن على صفحات موقع التواصل الاجتماعي «الفايسبوك» ان عدداً من العجلات الملغمة والجاهزة للتفجير تتجول الآن في بغداد، وبعد ساعات هزت العاصمة انفجارات ناجمة عن هجمات بسبع سيارات مفخخة. وأعلنت وزارة الداخلية انها تمكنت من تفكيك 8 اخرى في أحياء سكنية واسواق شعبية. مسؤول رفيع في مجلس الوزراء توفر دائرته معلومات استخباراتية امنية وسياسية من كل انحاء البلاد، اعتبر في تصريح الى «الحياة» ان تسريب المعلومات «يدخل في صنفين، الاول رد فعل من عناصر تعمل داخل الاجهزة الاستخباراتية على جمع المعلومات او تحليلها ترى ان الاجراءات المتخذة لا يتم التعامل معها بجدية من جانب القائمين على الاجهزة الامنية فتضطر الى إحراجهم عبر النشر عبر وسائل الاعلام او مواقع التواصل الاجتماعي... اما النوع الآخر من المعلومات المسربة فهو جزء من الخرق الكبير للجهاز الاستخباراتي وعمليات التخريب التي تطاوله من الداخل وتتمثل بإبلاغ المطلوبين عن تحركات الحكومة تجاههم». وحول طبيعة هذه الاختراقات والتحديات التي تواجه مؤسسة الاستخبارات العراقية من الداخل، لفت المصدر الى ان «آلية بناء التشكيل الامني لم تكن صحيحة منذ البداية ومنها جهاز جمع المعلومات وهو العصب الرئيس لأمن البلاد. هناك صراع كبير داخل هذه التشكيلات بين أزلام النظام السابق وأنصار العهد الجديد. فالضباط الموالون للعملية السياسية والتابعون لأحزاب دينية وغالبيتهم لا يمتلكون خبرة كافية لإدارة العمل مهنياً وتم تعيين جلّهم من طريق المحسوبية والمنسوبية من دون زجهم في دورات تأهيل وإعداد، ما زالوا يتعاملون بعدم ثقة مع زملائهم من الخندق الآخر». وتابع: «لكن الخطر الاكبر هو ان عدم مهنية الموالين فتحت امام البعثيين الباب على مصراعيه لعمليات تخريب منظمة لهذا الجهاز المهم على المستويين العسكري والمدني، وهؤلاء ما زالوا ينظرون الى الاسلاميين في دوائرهم وفي أروقة السياسة على انهم ما زالوا عملاء لإيران». وكانت الحكومة العراقية اقالت العام الفائت احد كبار ضباط وزارة الداخلية من منصبه وأحالته الى القضاء بتهمة تسريب وثائق محدودة التداول الى شخصية سياسية رفيعة متهمة بالارهاب ليست لها علاقة بالعمل الامني. ورفض المصدر تصريحات عدد كبير من مسؤولي الامن في البلاد عن نقص في المعلومات وأن هناك مشكلة تواجه الاستخبارات، معتبراً ان «المشكلة ليست في جمع المعلومات، المشكلة لدينا الآن هي في ضعف قدرة الموالين للعملية السياسية في الاستخبارات في ادارة موارد المعلومات، ومن جهة اخرى ترك جمع وتحليل وتقويم المعلومات لعناصر لا تريد الاستقرار الامني وهي تعمل اصلاً لتقويضه». وكشف «الآن ومنذ سنوات هناك اكثر من 80 ألف مصدر للمعلومات من خارج وزارتي الداخلية والدفاع وجهاز الاستخبارات الوطني، ومحصورة تقريباً في 7 محافظات تشهد عدم استقرار يزودوننا باستخبارات جارية على مدار الساعة تغطي كل متر مربع من هذه الرقعة وتأتي من خلالهم معلومات خطيرة جداً، وفي حال تعامل معها المسؤولون الامنيون على الارض في شكل جدي، لكان العراق اكثر دول المنطقة استقراراً». وعن مدى اختراق مصادر المعلومات لتنظيم «القاعدة»، قال المصدر: «نحن نخترق القاعدة طولاً وعرضاً ولا تخفى علينا صغيرة او كبيرة لا نعرفها من خطط او إعداد لعمليات او تحريك موارد بشرية او اسلحة على ارض العراق ودول اخرى داعمة بأي شكل من الأشكال، وأوكار قياداتهم الثابتة والمتنقلة وأرقام لوحات العجلات التي يتنقلون فيها». واستدرك: «لكن في المقابل هم ايضاً يخترقوننا طولاً وعرضاً».