على بعد امتار من حفرة عملاقة خلفها آخر الانفجارات المروعة في تقاطع مروري بمنطقة الوزيرية ببغداد، كانت مجموعة من تلاميذ المدارس تهم بوضع اكليل من الزهور الاصطناعية تعبيراً عن الحزب لفقدان زميلة لهم قالوا انها تبخرت تشظياً او احتراقاً. لكن مشاعر الاسى والذهول بعد سلسلة الهجمات الدامية التي غزت بغداد أخيراً انحسرت لمصلحة اسئلة حائرة وغاضبة بدت محور حديث أهالي بغداد في الاسواق المتوارية خلف الحواجز الكونكريتية وفي المقاهي والجلسات الخاصة وحتى لدى السياسيين العراقيين الذين كانت ردود افعالهم تحاول مسايرة الشارع من دون أن تخفي تضخماً في الاستثمار السياسي للازمة الأمنية المستحكمة. «لن يتركها إلا وهي خراب»! كانت هذه العبارة دارجة لدى العراقيين حتى عام 2003 في وصف تشبث الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بالسلطة واستعداده لتدمير البلد قبل ان يتخلى عنها. ويبدو ان سلسلة المجازر الاخيرة في العراق تحت عناوين «الاربعاء الاسود» و «الاحد الدامي» و «فاجعة الثلثاء» ومن ثم ثلثاء اخرى بثلاث سيارات مفخخة حول المنطقة الخضراء احيت تلك المقولة ولكن هذه المرة موجهة الى الاميركيين فهم، والحديث لصاحب مكتبة ستيني في شارع السعدون، «لن يتركوا بغداد الا وهي خراب» في اشارة الى تدمير مجموعة من ابرز المؤسسات الرسمية في العراق كانت تشكل ملامح معمارية مثل وزارات الخارجية والعدل والمال والعمل ومحكمة الكرخ وغيرها. لكن اية اشارة الى دور اميركي في هذا الاضطراب الامني المتصاعد لم تظهر الا في معرض الحديث عن تأثير الانسحاب الاميركي من المدن والتشكيك السياسي والشعبي في قدرة القوات العراقية على ملء الفراغ الامني على رغم تأكيدات كبار القادة العراقيين على امكانات تلك القوات، وأيضاً عندما كشف الوزراء الامنيون خلال مرحلة تبادلهم الاتهامات امام البرلمان عن معلومة مفصلية تؤكد ان الاستخبارات الاميركية حذرت العراقيين قبل نحو أربع ساعات من حدوث هجوم كبير ما استدعى إغلاق المنطقة الخضراء المحصنة من دون اتخاذ اجراءات مماثلة في المناطق الاخرى. لكن قائد عمليات بغداد الذي نحي عن منصبه عبود قنبر والذي تعرض الى هجوم سياسي لاذع على أنه «بعثي سابق!»، اشار الى ان قواته لم تتسلم التحذيرات الاميركية الا قبل سبع دقائق من حدوث الهجمات وكانت مصحوبة بمعلومة اضافية ترجح ان الهجوم سيصيب «مركز حاسبات». صراع أمني – أمني وبصرف النظر عن حالة الارتباك التي صاحبت تداعيات التفجيرات الأخيرة فانها أوضحت مجموعة حقائق. فعراق ما قبل الانسحاب الاميركي الكامل بنحو عامين يفتقر الى وحدة القرار الامني وتتنازع مؤسساته الأمنية (وزارات الدفاع والداخلية والأمن الوطني وجهاز المخابرات وقيادة عمليات بغداد وقيادات أمن المحافظات وبيشمركة إقليم كردستان) على الصلاحيات والاسلحة والموازنات والمرجعية التي يدين بها القادة والضباط والجنود. ولم يكن من الصعب ان يستنتج المتابع من خلال جلسات استجواب الوزراء والقادة الامنيين العراقيين ان خلافات عميقة تسود علاقاتهم الشخصية والمهنية مردها المرجعيات السياسية التي يدينون لها كجزء من المحاصصة التي استحكمت في بناء القوات العراقية برعاية اميركية. بل ان الصراع اظهر في شكل لافت مدلولات سياسية فاضحة على غرار الخلاف الكبير الذي كشف أخيراً بين رئيس الوزراء العراقي ووزير الداخلية وخلاف الأخير مع قائد عمليات بغداد وهذا مع الاستخبارات والامن الوطني وهكذا. وكان من بين ما ظهر وكأنه كوميديا مأسوية ان يعترف وزير الدفاع عبدالقادر العبيدي بأنه لا يمتلك صلاحية منح اكثر من نحو 800 دولار في السنة كمكافآت لمخبرين عن مشبوهين على غرار صور أوراق اللعب الاميركية! والمفارقة الأخرى ان يشكو رئيس جهاز الاستخبارات من اتهام جهازه بالعمل لمصلحة دول اجنبية وعجزه عن ضمان تعاون وزارة الخارجية والسفارات والوزارات ذات النشاطات الخارجية لإنشاء محطات جمع معلومات دولية كعمل اعتيادي لأي جهاز استخبارات في العالم! ومن ثم يجد وزير الداخلية نفسه أمام هجوم سياسي لاذع لترشيحه في البرلمان فيطالب نواب غداة الهجوم الاخير بإقالته كنوع من الانتهازية السياسية المستشرية! ومن ثم يتم الكشف عن ان رئيس الوزراء سعى مراراً الى إقالة وزير الداخلية ووجه برفض مجلس الرئاسة لهذه الإقالة. وزير يسرب للاعلام معلومات تدين زميله بهدف اسقاط الاتجاه السياسي الذي يمثله، وآخر يسرب معلومات أخرى للهدف نفسه! المالكي كان يحاول معالجة هذا الخلل بجمع السلطات الامنية في بغداد تحديداً في يده عبر «قيادة عمليات بغداد» التي نالت منذ عام 2007 ردود فعل مختلفة بين مرحب بالانجازات التي حققتها على مستوى الامن عام 2008 ومتحفظ على اختراع مؤسسة امنية خارج السياقات الامنية والعسكرية المعروفة. وتلك القيادة التي يقودها ضباط من الجيش العراقي مرتبطة بمكتب القائد العام للقوات المسلحة وتستحوذ على صلاحيات وزيري الداخلية والدفاع والامن الوطني في بغداد على حد وصف وزير الداخلية. لكن ذلك خلف كما يبدو استياء غير محسوب في اوساط الداخلية العراقية التي وجد ضباطها الميدانيون انهم يأتمرون بأوامر قادة الجيش ما عمق من الحساسيات التاريخية المعروفة بين الجيش والشرطة فتحول الامر من خطوة لتوحيد القرار الامني الى سبب في المزيد من التشتت والتناقض. المعلومات المتوافرة عن ظروف انشاء تلك القيادة تؤكد انها كانت من ضمن الخطوات التي شجع الجيش الاميركي عليها مع تصاعد الحرب الاهلية وقرار الرئيس الاميركي السابق جورج بوش انتهاج استراتيجية جديدة في العراق. المطلعون على آلية عمل هذا التنظيم يلمسون فيه ميلاً الى الهيكلية العسكرية لا بحكم توجهات قياداته، ويمكن القول أيضاً ان الاميركيين انحازوا من البداية الى الجيش الذي نال تدريباً اكثر جدية من قوات الشرطة العراقية. قادة أمنيون كبار يؤكدون في المقابل ان الفلسفة الامنية التي تنطلق من رؤية العسكر تحقق نجاحات قصيرة الامد على غرار الطعون في النهج الامني للجيش الاميركي في العراق منذ عام 2003. وعقلية العسكر تفرض نفسها حتى في نطاق الشرطة العراقية التي يشغل ضباط في الجيش العراقي السابق مراكز رئيسة فيها على مستوى التخطيط والعمل الميداني. والخلل يمتد الى ما ابعد من ذلك بالحديث المعلن عن شمول آلاف الضباط في وزارتي الداخلية والدفاع بقوانين «اجتثاث البعث» بانتظار اقصائهم بعد توجيه الاتهامات اليهم كونهم مصدر اختراق البعثيين للاجهزة الامنية. ولم تشفع لهؤلاء بالطبع خدمتهم العملية السياسية في العراق طوال السنوات السابقة وقتالهم التنظيمات الارهابية ووضع انفسهم وعائلاتهم في دائرة الانتقام على يد المسلحين، ما يعكس صورة قاتمة عن رؤية الوسط السياسي العراقي للمستقبل، ويفتح الباب امام اجراءات ارتدادية لمجموعات كبيرة من الضباط على وقع الشعور بالغبن وربما «التعرض للغدر»، ما يقوض اية فرصة للوصول الى مصالحة وطنية حقيقية في العراق تطوي صفحات الماضي. استراتيجية غير واضحة تكاد تكون الحصيلة الوحيدة التي خرجت بها استجوابات البرلمان العراقي للقادة الامنيين ورئيس الحكومة، ان الجهد الامني في العراق لم ينتج استراتيجية امنية واضحة المعالم ما دفع بالبرلمان الى محاولة اجبار الحكومة على انتهاج خطط امنية جديدة. وبدا سعي البرلمان أقرب الى الدعاية الانتخابية لاعضائه، فلا النواب قادرون عملياً بحكم الاختصاص على انتاج استراتيجيات امنية، ولا انتاج مثل تلك الاستراتيجيات من مهمات البرلمان. والأهم ان البرلمان العراقي الذي احتاج الى شهور عدة لإقرار قانون الانتخابات فشل في المقابل على امتداد اربع سنوات في اقرار التعديلات الدستورية على وقع خلافات مستحكمة بين اطرافه، فيما يواجه عدد من النواب في الاساس اتهامات بالتعاون مع مجموعات مسلحة. والحديث عن وجود نحو مليوني عنصر أمن في العراق الذي لا يتجاوز سكانه في أحسن الاحوال 30 مليون نسمة أمر يدعو الى التساؤل عن طبيعة شروط بناء القدرات الامنية التي تعهدت بها واشنطن في نطاق الاتفاق الامني بين البلدين. فاللجوء المستمر الى عسكرة الشارع ونصب آلاف نقاط التفتيش في الشوارع والاحياء هي في الواقع اجراءات تنحدر من عقلية العسكر وليس في عقلية رجال الأمن. والمضي في عمليات تعيين عشوائية لغير الكفوئين لسد الخلل في التوازن المذهبي على مستوى القوى الامنية انتج سريعاً مردودات سلبية وصار هؤلاء الذين نالوا درجات امنية رفيعة من دون الدخول الى الكليات الخاصة بالشرطة والجيش ومن دون الحصول على شهادة الاعدادية عبئاً على المؤسسة الامنية بافتقارهم الى الكفاءة واعتمادهم في ضمان استمرارهم في مناصبهم على دعم الاحزاب التي رشحتهم لهذه المناصب. وأمام مثل هذا الواقع كان على القيادات الامنية العراقية النظر بموضوعية الى الواقع الامني بديلاً عن الاستعانة بما سمي لاحقاً «منهج الصحاف» بادعاء ما ليس موجوداً على الارض. والسؤال الذي يجدر على القيادات الامنية العراقية الاجابة عنه هو «لماذا تمكنت القوات الاميركية من الحصول على تحذيرات في شأن الهجمات لم يستطع العراقيون الحصول عليها؟». البولاني قال مقترباً من الاجابة ان القدرات الاستخبارية الاميركية حول العالم وقدراتها التكنولوجية تمكنها من الحصول على هكذا معلومات، لكن القوات الاميركية لن تتمكن مهما ارادت من بناء شبكة استخبارات رصينة في العراق يعجز العراقيون عن بنائها. وبناء شبكة استخبارية واسعة لا يعتمد على مخبرين سريين فقط وإنما على تعاون شعبي عام ما يعيد البلاد الى الاسئلة الاولية حول برامج المصالحة الوطنية وتجميد هذا الملف على خلفية التنازع السياسي. تغيير التكتيكات طبيعة التفجيرات الاخيرة في بغداد تكشف عن منهجية ارهابية جديدة تعتمد التخطيط الدقيق للعمليات التي يقاس نجاحها إرهابياً بمقدار ما تحققه من خسائر بشرية ومادية، وحجم ما تثيره من اهتمام اعلامي وما تخلفه من ارتباك سياسي. والحديث الحكومي عن تحالف بين «البعث» و «القاعدة» بدعم خارجي لنسف «العملية السياسية» جاء مجدداً مفتقداً الى الوقائع، فيما كانت الاعتقالات التي أعلنت للمنفذين ونشر أشرطة مسجلة لاعترافاتهم تجري خارج اهتمام المنفذين وبعيداً من احداث أي تأثير في مخططاتهم! والنسق الذي غلف هجمات بغداد المتكررة باستخدام شحنات كبيرة من المتفجرات نوع c 4 الشديدة الانفجار والمستوردة من الخارج تكشف حاجة المنفذين الى ظروف موضوعية اهمها: أولاً: امكانات نقل المتفجرات من الخارج الى بغداد ومن ثم تفخيخ السيارات داخل المدينة ما يحتاج الى شبكة واسعة ومتشعبة من المتعاونين قادرة على تمرير تلك الشحنات بين عدد من المدن العراقية التي قد تكون متباينة مذهبياً او عرقياً مثلما تحتاج الى أماكن آمنة داخل بغداد لتفخيخ المركبات وفي الغالب تكون تلك الاوكار بالقرب من الاهداف. ثانياً: عناصر انتحارية مطلعة بالتفصيل على خريطة المدينة ومداخلها ونقاط التفتيش فيها وأيضاً نقاط ضعف الهدف مع العلم ان جميع التقارير الامنية تجمع على تراجع عدد الانتحاريين المستوردين من الخارج. ثالثاً: غطاء مالي كبير لضمان شبكة متعاونة في نقل المركبات الى اماكنها وضمان تفجيرها في أوقات متزامنة وتقديم الرشى لتحقيق هذا الهدف. رابعاً: إسناد لوجستي للمركبات خلال حركتها وتنقلها وصولاً الى الهدف ومن ثم قدرة على الانسحاب من منطقة الهدف الى أوكار آمنة. واعتراف تنظيم «القاعدة» بمسؤوليته عن العمليات يثير التساؤل عن امكانات التنظيم خصوصاً مع تعرضه الى هزات كبيرة اضعفت قدرات التخطيط والتنفيذ لديه في شكل واضح مع تخليه عن غالبية المناطق التي كانت تعد حاضنات لنشاطه. واختفاء نشاطات «القاعدة» او تراجعها خلال نحو 18 شهراً ومن ثم عودتها يتطلب هو الآخر تدقيقاً في المتغيرات التي طرأت على التنظيم خلال المرحلة السابقة. واللافت ان المعلومات التي كانت حتى وقت قريب متاحة نسبياً عن تحركات تنظيم «القاعدة» في العراق عبر جناحه «دولة العراق الاسلامية» باتت اليوم شبه معدومة، فيما تشير العمليات الاخيرة الى ان تغييرات جذرية ربما حصلت خلال المرحلة السابقة في قيادات التنظيم شملت كما يبدو استراتيجياته وأولوياته وعلاقاته ما فتح أمامه منافذ جديدة لتحقيق اختراقات كبيرة. مشكلة أجهزة يعتبر سامر الشرطي في نقطة تفتيش بالقرب من حي الشعب شرق بغداد ان تكليفه بمهمة تفتيش السيارات بجهاز كشف المتفجرات أشبه بالعمل الانتحاري «يضعوني وسط حواجز عملاقة وعليّ ان افحص كل سيارة وكثيراً ما اتساءل ماذا سيفعل الانتحاري في حال اكتشف الجهاز وجود المتفجرات؟». ولكن هل اجهزة الكشف عن المتفجرات التي استورد العشرات منها في صفقة يجري التحقيق حولها هذه الايام... عاطلة؟ المسؤولون عن الصفقة يؤكدون ان تلك الاجهزة صالحة وان الخلل في طريقة الاستخدام في نقاط التفتيش وعدم الالتزام بشروط الفحص. لكن عناصر الشرطة الذين تفرغوا لفحص المركبات وكذلك نواب البرلمان والاهالي ينفون ذلك ويؤكدون ان الاجهزة تكشف عن العطور والاغذية وليس المتفجرات. والاصل ان تلك الاجهزة في حاجة الى تدقيق مع الشركات المصنعة وقبل ذلك تدريب العناصر القادرة على فهم اسلوب تشغيلها.