أوضح كتاب ومثقفون أن مفهوم التنوير إذا لم ينتقل من خلال سيرورة تاريخية إلى الوعي «الجماهيري» فسيفقد تنويريته وتأثيره. ويرى هؤلاء في استطلاع ل«الحياة» أن كل التجارب التنويرية العربية على أهميتها لم تكن ذات مكون جماهيري شعبي، بحيث يصبح لهاجس التنوير والخروج من القصور العقلي طاقة فعلية تفجر التحول الاجتماعي التغييري. وقالوا إن هناك مشكلة بالفعل في مسألة التواصل، يواجهها كل كاتب يتناول قضايا لا تهم القطاع العريض من القراء. مؤكدين أن الكاتب التنويري إذا لم يلامس الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، سيكون كاتباً بعيداً عن ملامسة قضايا الناس، وسيظل يتداول أفكار من الصعب إسقاطها في محيط ثقافي واجتماعي. هنا شهادة حول الكتابة والتنوير والجماهيرية. أحمد بوقري: صنع اللحظة المؤجلة كل كاتب منور ذو عقلية تقدمية بالضرورة يكون متجاوزاً قصوره العقلي ومتجاوزاً سيطرة الآخر عليه، إذا اعتمدنا المفهوم الكانتي للتنوير. هذا المفهوم البدهي إذا لم ينتقل من خلال سيرورة تاريخية إلى الوعي المحيط وأقصد به «الجماهيري» يفقده تنويريته وتأثيره. كل التجارب التنويرية العربية على أهميتها بدءاً من الأعمال والإنجازات الفكرية الفردية على أهميتها واستثنائيتها في لحظتها الزمنية لكل من شبلي شميل وعبدالله النديم ورفاعة الطهطاوي مروراً بطه حسين وعلي عبدالرازق إلى العواد وحمزة شحاتة في مشهدنا المحلي لم تكن ذات مكون جماهيري شعبي، بحيث يصبح لهاجس التنوير والخروج من القصور العقلي طاقة فعلية تفجر التحول الاجتماعي التغييري. بالطبع كانت الظروف السياسية وسطوة الاستبداد الديني ولاحقاً السياسي والمالي معوقاً لحدوث هذا الالتحام بين الفعل الثقافي المتنور والوعي الجماهيري القاصر في فهم ذاته ومصيره. المناخ الديموقراطي الحر هو ما يحقق مفعول هذا التنوير الثقافي للكاتب، لكن هذا المناخ مازالت تتجاذبه صراعات آيديولوجية غير عقلانية، ما يؤخر في الحقيقة هذا التلاحم والتأثير اللحظوي. يظل الكاتب والناشر شريكان مهمان لصنع هذه اللحظة المؤجلة، لحظة التنوير التي مازالت رهينة لزمن أصولي مستطيل، ويبدو أن هذا الزمن مازال رهينة قصوره وعدم استقلاليته. سكينة المشيخص: مساهمة إيجابية في التنوير التنوير فعل معرفي عام، ولا يرتبط بقضية دون الأخرى، كما أنه حال معرفية وثقافية يفترض بها أن ترتقي بالوعي الفردي والاجتماعي، وتسمح باتخاذ القرارات الذاتية بصورة ناضجة وعن قناعة كاملة من دون تأثير من عوامل خارجية أو ضغط من البيئة المحيطة وتحديد الخيارات تبعاً لذلك، وليست مسؤولية الكاتب أن يعمد إلى توجيه المتلقي إلى فكرة بعينها، ولا يمكن للكاتب أن يضع نفسه في سياقات تجعله وصياً على المجتمع وأفراده، وإنما هو مسؤول عن المساهمة الإيجابية في عملية التنوير من دون أن تكون مقصودة لذاتها، وإنما في إطار صورة كلية للارتقاء بالوعي. أما القارئ السعودي فقد حقق الانتقال المعرفي المطلوب الذي يواكب المرحلة المعرفية الراهنة، واستطاع من خلال الوسائط التقنية الحديثة أن يصبح في مستوى معرفي مناسب يقوّم من خلاله الأشياء. كما أن عالم الإنترنت ومواقع الشبكة الاجتماعية كان لها دور إيجابي كبير في الوصول إلى حال معرفية مناسبة لما فيها من تبادل للآراء والمعرفة والخبرات. أما بالنسبة للناشرين فعليهم مواكبة التقنيات الحديثة والبدء في مرحلة انتقالية باتجاه الكتاب الإلكتروني، لأن وقت القراء أصبح مركزاً في الوسائط الحديثة من خلال «الآيباد» و«الآيفون» والهواتف الذكية، وتقلّص الوقت المتاح للكتاب الورقي، بصورة أسرع منه في الصحافة الورقية، ولم يعد ممكناً نشر أي كتاب لأن وعي القارئ وذائقته أيضاً تطورت وأصبح يمتلك حساً نقدياً موضوعياً لتقويم المادة المعرفية والثقافية والأدبية. عبدالله القفاري: نحتاج نوعاً مختلفاً من الكتابة أعتقد أننا نحتاج إلى نوع من الكتابة مختلف عما يطرح الآن. الكاتب التنويري إذا لم يلامس الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وينزل عليه قراءات تحلل وتفكك وتربط تلك القضايا التي تتماس بالواقع مع الأفكار وعالم الأفكار، سيكون كاتباً بعيداً عن ملامسة قضايا الناس وسيظل يتداول أفكاراً من الصعب إسقاطها في محيط ثقافي واجتماعي، ولن تكون أداة التغيير فيه الكتابة الفلسفية المجردة أو النصائح الوعظية المكثفة. كنت أحلم بمشروع كتابة فكرية موجهة للجمهور العام وليس للنخبة تلامس الأفكار من دون إيغال في أبحاثها الفلسفية، وتخاطب الواقع وهي تبحث عن حلول في أفق المستقبل. أما صناعة النشر لدينا فهي لازالت تجارية وموجهة تجاه مشاريع كتابية مركبة على جمهور وقراء تدرك تلك الدور أنهم ضالتها. المطلوب أن تتبنى وزارة الثقافة والإعلام «هيئة للكتاب» تكون مهمتها توسيع دائرة النشر بما يخدم أهداف أبعد من التسويق والعرض. ولست ألوم الناشرين الذين يجدون مشقة في تسويق إنتاجهم ويعزفون عن نشر كتب يدركون أن جمهورها نخبوي أو أن سوقها أضعف من أن تغطي كلفة النشر واستمرارية الدار. صناعة الثقافة مهمة حكومية أيضاً، ولكن هذا يتطلب رؤية لا تتوافر لدى وزارة الثقافة والإعلام التي تكاد كل مشاريعها في خدمة القراء لا تتجاوز معرضاً سنوياً يتيماً. أما القارئ السعودي فأنا لا أراه إلا في معرض الكتاب. يخطئ من يعتقد أن الكتاب الثقافي يجد جمهوراً قارئاً هنا. كثافة الإنفاق في شراء الكتب من المعرض الدولي ونوعية ما يقرأ يعبر عن رغبة في اقتناء كتاب من نوع معين، لكن لا يعبر عن جيل قارئ نهم متفاعل يدرك أن القراءة ليست موسمية وليست مناسبة معرض سنوي. عالي القرشي: ترويج كتب دعائية الكتاب ليست صناعة ناشر فقط، فصناعته عملية تفاعلية يشترك فيها الجمهور المتلقي ومؤسسات التمويل والمؤلف، وغير كاف وعي واحد من هذه الأقطاب عن الآخر؛ فحين تكون المؤسسة الممولة مثل المؤسسات الثقافية ومراكز البحوث ذات توجهات تنويرية ولا تجد التلقي المقبول فإن النشر غير كاف. وحين يكون التلقي متلهفاً لما يزيد وعيه ويستجيب لتطلعاته، فإن ذلك لا بد أن يعضده اشتغال المؤلف والناشر والممول، وحين يستسلم الناشر لما يعود عليه من مال نتيجة الترويج والخداع الإعلامي للجمهور فستنشأ لدى الجمهور مشاعر مستجيبة لخداع وقتي تستجيب لترويج كتب دعائية، حتى ولو كانت بيضاء أو حافلة بصور شخصيات إعلامية فقط، لكل ذلك فالكتاب التنويري يدخل في ساحة يتجاذبها الإعلان والترويج، والطمع في الحصول على جيب القارئ قبل وعيه، والشعور بالإنجاز لدى مؤسسات التمويل، وهنا نجد الرهان على المؤلف وعلى الوعي المختلف لدى قلة من الجماهير تعرف أن كتاب الزحمة ليس تنويرياً، ولدى قلة من الناشرين التزموا خطاً تنويرياً، ضحوا من أجله بالتنازل عن حفنات المال الخادعة، لهذا فإن المؤلف المؤتمن على وعي تنويري يتحمل عبئاً كبيراً في سبيل ذلك، بالتضامن مع فئة مختلفة من الناشرين والمؤلفين.