انطباعات عدم الرضا التي سادت في الأيام الخمسة الاولى، والتي غَلبت على تغطيات وسائل الإعلام وتعليقات الرواد في الدورة الثالثة والستين لمهرجان برلين السينمائي، تضاءلت قليلاً مع وصول المهرجان الى خاتمته يوم الأحد الماضي. إنها اختيارات المسابقة الرسمية مجدداً، والتي تثير منذ أعوام انتقادات المتابعين. فالمهرجان يواجه صعوبات كبيرة في جذب أفلام مخرجين معينين، كما يبدو أنه خسر المنافسة مع مهرجاني «كان» و «فينسيا»، عندما يتعلق الأمر بأفلام مسابقتة الرسمية، ويكفي للتيقن من هذا، العودة إلى سياسة توزيع الأفلام في الصالات السينمائية الاوروبية للعام الفائت، والتي تُشير الى شعبية الأفلام التي عرضت في مهرجاني «كان و «فينسيا»، والدليل وصولها السريع الى الصالات الاوروبية الفنية مقارنة بمثيلاتها التي عرضت في برلين. كما أن سياسة التوازنات الجغرافية والفنية بين الأفلام المختارة أصبحت عبئاً على المسابقة، تضاف الى هذا القرارات غير المفهومة التي تقف وراء توزيع الأفلام بين برامج المهرجان، ولماذا يعرض مثلاً فيلم «الأرض الموعودة» للأميركي غوس فان سانت في المسابقة الرسمية على رغم انه عرض تجارياً في الولاياتالمتحدة الأميركية في شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، ولا يعرض فيلم «الخروج للنهار» للمصرية هالة لطفي في المسابقة عينها (عرض في برنامج «فورم» من المهرجان)، على رغم أن الأخير يتفوق فنياً على الكثير من أفلام المسابقة لهذا العام. وكيف يمكن تفسير عرض أفلام شديدة السوء لهذا العام، مثل فيلم «الموت الضروري لتشاري كونتريمان» للمخرج السويدي هندريك بوند؟ والذي حاول تقديم قصة عصابات ذكي، وانتهى الى هجين من الأفكار المُقلدة البدائية، على رغم مجموعة الممثلين الأوروبيين والأميركيين الجيدين الذين اشتركوا في لعب الادوار الرئيسة في الفيلم. المجتمع بكلفة زهيدة جاءت الجوائز لمصلحة الأفلام الاجتماعية من ذوات التكلفة الإنتاجية الزهيدة، والتي قاربت قصصاً معاصرة من القارة الاوروبية. فجائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم حاز عليها الفيلم الروماني «حالة الطفل» للمخرج بيتر كالين نتسار، ليستكمل النجاح الاخير، تلك التي حققتها السينما الرومانية منذ فيلم «أربعة أشهر وثلاثة أسابيع ويومان» للمخرج كريستيان مونجيو، (جائزة مهرجان «كان» السينمائي لعام 2007). هناك في الحقيقة الكثير الذي يجمع بين الفيلمين المذكورين، كما يمكن إيجاد مشتركات بين «حالة الطفل» ومعظم الأفلام الرومانية من العقد الأخير، بعضها فني (الكاميرا المحمولة اللاهثة وراء الشخصيات، والتقشف التقني لهذه الأفلام، لتبدو قريبة من السينما التسجيلية)، وبعضها يتعلق بعلاقة هذه السينما بالماضي الخاص للبلد، والعلاقة المعقدة بين شخصيات الأفلام وهذا الماضي، وتمظهراتها السياسية والاجتماعية والنفسية والدينية. شخصيات فيلم «حالة الطفل» تحمل وزر الماضي، الذي لن نعرف عنه الكثير ضمن سياق الفيلم. فالخلاف الذي وصل إلى العطب في علاقة الأم والإبن في الفيلم، وقع خارج الفيلم والشاشة، ولن تتسنى لنا معرفة تاريخه وأسبابه، لكنه هناك. وحتى عندما يواجه الإبن الأزمة الأكبر في حياته، حين يقتل طفلاً بسيارته، يبقى غضب الإبن من الأم الثرية ماثلاً، ولن تنفع كل محاولات الأم في إنقاذ ابنها من أزمته في إذابة جليد ذلك الخلاف. يقدم الفيلم الأيام القليلة التي تمضي بين حادثة السيارة ودفن الطفل، ويتابع الجهود التي تبذلها الأم لتخليص الإبن. الأم هذه من طبقة اجتماعية تجمع بين الثراء والنفوذ الاجتماعي. ومرة أخرى لن نعرف الكثير عن خلفيات الطبقة التي تنتمي اليها الأم، هل هي من «رومانيا القديمة»؟ أم تنتمي الى طبقة ظهرت بعد الثورة ضد الشيوعية؟ كثير من وقت الفيلم سيذهب في التفاصيل الإدارية الخاصة بالحادثة، ومحاولات الأم وأصحابها من ذوي النفوذ التأثير في تحقيقات الشرطة. تلك المشاهد تملك أهميتها الخاصة، فهي تكشف عن فروقات اجتماعية وغضب مكبوت، سيتفجر أحياناً في وجه الأم (تلعب دورها بتمكن كبير الممثلة رومينيتا جيورجيو). يهدأ الفيلم أحياناً، وبخاصة في مشاهد الوحدة التي تعيشها الأم، وألمها من جحود الإبن، كما يتضمن الفيلم، أحد أكثر مشاهد المسابقة الرسمية حميمية وتأثيراً، عندما تقوم الأم بوضع مَرهم على ظهر إبنها بعد الحادثة، هي ربما المرة الأولى التي تكون بهذا القرب من ابنها منذ عقود، هما عادا الى زمن كاد يُنسى من حياتهما، وكلاهما لا يرغب لتلك اللحظة أن تنتهي. الجنين الميت جائزة الدب الفضي، وهي الثانية في تسلسل الجوائز في المهرجان، حصل عليها «حلقة من حياة جامع الحديد» للمخرج البوسني دانيس تانوفيتش. الفيلم الذي كانت تكلفة انتاجه اقل من 50 الف يورو، كان مفاجأة سارة للمهرجان. هو ينتمي الى سينما ما بعد الواقعية الجديدة، عندما يقوم ناس عاديون بلعب شخصياتهم ذاتها او قريبة منها على الشاشة. قصة الفيلم عن عامل جمع الحديد وعائلته. العائلة من غجر البوسنة، من الذين تحاصرهم الصور النمطية الكثيرة، والتي ليس منها عوزهم الشديد وظروف حياة كثير منهم الصعبة. الفيلم يتبع العائلة لأيام، عندما تكتشف ان الجنين في بطن الأم قد مات، لكنها عاجزة عن دفع تكاليف المستشفى للعلاج. يقضي الأب (حصل نظيف ميويتش على جائزة أفضل ممثل في المهرجان عن الدور) معظم وقت الفيلم وهو يحاول ان يجد حلاً لأزمة عائلته، والموت الذي ينتظر الأم اذا لم يتم استخراج الجنين الميت. الفيلم يقترب بصدق من عالم تلك العائلة، وينقل شظف عيشها. وهو عندما يصل الى منتصفه، تكون قصة هذه العائلة قد صارت من التأثير، بحيث لم يعد مهماً ابداً ان الذين قاموا بالادوار في الفيلم يقفون امام الكاميرا للمرة الأولى في حياتهم، وأداؤهم تغيب عنه الجودة في مواضع. لم ينل الفيلم التشيلي «غلوريا»، جائزة الفيلم الافضل، وذلك خلافاً لترشيحات معظم النقاد الذين حضروا المهرجان، لكن بطلته بولينا غارثيا والتي لعبت شخصية «غلوريا»، نالت جائزة أفضل ممثلة. هي تلعب دور امرأة على مشارف عقدها السادس. موظفة، عادية الشكل، من اللواتي لا يجذبن الانتباه، مطلقة، وأبناؤها البالغون لم يعودوا في حاجتها. غلوريا هذه لا ترغب أن تنسحب من مجرى الحياة، الفيلم يبدأ بمشهد لها في نادٍ ليلي لرجال ونساء من عمرها. هي تبحث عن الحب والجنس، عن علاقة طويلة او عابرة. غلوريا ستهيمن على تفاصيل الفيلم، وهذا غير شائع في السينما، لنساء من عمرها، ما زلن يملكن رغبات وشهية كبيرة بالحياة. وخلافاً لفيلم «حب» لمايكل هانيكه من العام الماضي، والذي يطرق «الموت» فيه شقة الزوجين العجوزين، تفتح «غلوريا» بابها للحب، ولا تمانع الوقوع في الاخطاء او تجربة ما يقوم به شباب بعمر أولادها. الأفلام الملحمية في المسابقة خرجت من دون جوائز على الاطلاق، حيث كان أكبر الخاسرين فيلم «الراهبة» للمخرج الفرنسي غيوم نيكلو، مع انه تميز بجودة تنفيذه، لقد عانى كثيراً من قدم موضوع الرواية التي استند إليها (رواية الكاتب الفرنسي دنيس ديدرو عن فتاة فرنسية تحاول الخروج من أسر بيت الراهبات الذي وضعت فيه)، وعدم قدرة الفيلم على عصرنة القصة بالشكل الكافي لتبدو مهمة للجمهور الآن. كما أخفق فيلم «ذهب» الالماني للمخرج توماس أرسلان، والذي قدم قصة من الغرب الاميركي، بإقناع لجنة التحكيم بجدوى القصة، والتي تدور عن باحثين عن الذهب من مهاجري الألمان من القرن الماضي، هذا الفيلم عاني كالفيلم السابق من ترهل الجزء الأخير منه، والإخفاق في تبرير اسباب تقديمه. الفيلم الذي تم تجاهله ايضاً من لجنة التحكيم (تألفت من: الممثل الأميركي تيم روبينز، المخرج الألماني اندرياس دريزن، المخرجة الإيرانية شيرين نشاط، المخرجة الدنماركية سوزانه بير والمصورة الأميركية إيلن كوراس والمخرجة والمنتجة اليونانية أتينا راشيل تسانجاري، وترأس المخرج الصيني ونج كار واي لجنة التحكيم لهذا العام)، هو «كاميل كلوديل 1915» للفرنسي برونو دومون. الفيلم يقدم اياماً فقط من السنوات الطويلة التي قضتها النحاته الفرنسية كاميل كلوديل في المصحة النفسية التي دُفعت إليها. تلعب النجمة جولييت بينوش هنا واحداً من افضل ادوارها على الاطلاق، دور النحاتة. الفيلم يبتعد في باريس حيث وقعت الاحداث الجسيمة في حياة النحاتة، ويقدمها بعد مضي سنوات من وجودها في المصحة. وعلى عكس فيلمي «الراهبة» و «ذهب»، يبدو التقديم الجديد للقصة على يد برونو دومون عصرياً وملحّاً، لذلك يبدو من الغرابة كثيراً ان تذهب جائزة لجنة التحكيم لأفضل مخرج للأميركي جوردون جري عن فيلمه المتوسط المستوى «برينس أفالانش». وحصل الإيراني جعفر بناهي والذي ما زال رهن الإقامة الجبرية في إيران على جائزة السيناريو عن فيلمه «الستارة المغلقة» مناصفة مع كامبوزيا بارتوي. جوائز لأفلام فلسطين واصل الفيلم التسجيلي «عالم ليس لنا» للمخرج الفلسطيني الشاب مهدي فليفل، والذي عرض ضمن برنامجه «بانوراما»، الحصول على جوائز المهرجانات التي يعرض فيها، فحل في المركز الثالث في قائمة الأفلام التسجيلية المفضلة لدى جمهور مهرجان برلين السينمائي، كما نال جائزة السلام الخاصة في المهرجان... في حين حصلت مواطنته آن ماري جاسر على جائزة «نيت باك» المتخصصة بالأفلام الآسيوية عن فيلمها الروائي «لما شفتك»، وحصل الفيلم التسجيلي «فن – عنف» للمخرجين بتول طالب ومريم أبو خالد وأودي ألوني على جائزة «FAIRBINDET». ومن الأفلام الكثيرة التي قدمت قصصاً من فلسطين، والتي عرضت في الدورة الثالثة والستين من مهرجان برلين، حصل فيلم «ان شاء الله» للمخرجة أنيس باربو - لافيته على الجائزة الثالثة لأفلام الروائية المفضلة عند الجمهور وجائزة اتحاد النقاد العالمي (فبريسي).