بعد الأزمة المالية التي اجتاحت جنوب شرقي آسيا سنة 1997، وامتدادها إلى البرازيل وروسيا، جرى تحميل صندوق النقد الدولي المسؤولية الأساسية، لأنه اتهم بأنه فرض سياسات قادت إلى هذا الانهيار، أو لأنه فرض بالفعل سياسات قادت إلى هذا الانهيار. ولهذا غاب منذئذ، وشهد عملية نقد هائلة ضد سياساته، ليس من جانب اليسار الذي كان ينتقد سياساته منذ عقود، بل من الرأسماليين أنفسهم الذين كانوا يرعون كل السياسات التي كان يتبعها. لكن المفاجئ أن الصندوق عاد أخيراً بعد نشوب الثورات في عدد من البلدان العربية لكي يمارس نشاطه «الروتيني»، فعاد يفرض السياسات ذاتها التي كانت سبب الانهيار المالي عام 1997. وقبلها كانت سبب كل انتفاضات الخبز التي حدثت في العديد من البلدان العربية منذ انتفاضة 18 و19 كانون الثاني (يناير) 1977 إلى الانتفاضة المغربية عام 1990 مروراً بانتفاضات تونس والسودان والجزائر والأردن. وإذا كان انهيار جنوب شرقي آسيا قد فرض تراجع دوره، وتخليه عن السياسات التي كان يتبعها، والتي كانت تقوم على تعويم العملة وتحرير التجارة وإنهاء الدور الاقتصادي الاستثماري للدولة، وضبط الموازنة على أساس «تقشفي»، وهي السياسة التي كانت تسمى سياسة التكيف الهيكلي، فإن السؤال الذي يطرح هو لماذا يعود الصندوق وتعود هذه السياسة التي أدت إلى الانتفاضات أصلاً في وقت سابق؟ وللسؤال أهمية لأن هذه السياسة تعود في وضع يحتم توقع حدوث ثورات جديدة في كل البلدان التي سوف يجري الاتفاق فيها مع صندوق النقد الدولي. حيث أن الشروط التي يفرضها الصندوق من أجل تقديم قروض تفرض حتماً إتباع سياسات تقود إضافة إلى تراكم المديونية إلى ارتفاع سريع في أسعار السلع والخدمات، في وضع يعاني فيه الشعب من احتقان هائل نتيجة ارتفاع الأسعار والخدمات وتدني الأجور، وضعف العملة وعجز الموازنة والمديونية العالية. هل يتلمس المتحكمون بالرأسمال الإمبريالي، الطغم المالية المهيمنة، هذا الوضع؟ ربما نعم، وربما لا، حيث لا يمكن لنا أن نحدد ذلك نتيجة أن خطورة الوضع تطرح الأسئلة، لكن الإجابات ربما ترتبط بفهم وضع الرأسمالية ذاتها التي تقوم بهذه الممارسة الخطرة. فأن تفرض سياسات تقود حتماً إلى ثورات أمر يفرض البحث في وضع الرأسمالية ذاتها، لأنها «لم تعد حصيفة» كفاية، أو لأنها باتت «غير عقلانية»، لأنها تمارس ما يفجّر الصراعات ضدها. لكن هذا الأمر يمارس أصلاً في بلدان جنوب أوروبا، وربما يمارس في أميركا ذاتها، حيث تفرض سياسة التقشف الشديد من أجل ضمان سداد الديون التي تراكمت على الدول. وهي السياسة التي يمكن أن تقود إلى ثورات في هذه البلدان، وتشير إلى تحوّل كبير في وضع الرأسمالية يدفعها إلى التخلي عن سياسة تعزيز وضع الفئات الوسطى، والعمال، والدفع بها إلى الهاوية. إذن، في البلدان الرأسمالية تلك يقتطعون من مداخيل الشعب لسداد الديون العائدة للطغم المالية (البنوك). وهو الأمر الذي يدفع إلى انهيار معيشي كبير يطاول الشعب، وتراكم مالي هائل يصبّ في البنوك. وبالتالي تتراجع كتلة الأجور لمصلحة كتلة الأرباح التي تذهب إلى الطغم المالية. هنا يمكن أن نتلمس الأساس الذي بات يفرض هذه السياسة من جديد: الطغم المالية. فقد بات التراكم المالي الهائل الذي أوقع الرأسمالية في أزمة عميقة يحتاج إلى فوائض جديدة. فهو تراكم متصاعد لا يستطيع التوقف أو الانتكاس، وعادة ما يقود انفجار الفقاعات المالية (مثل فقاعة التقنيات الحديثة عام 2000 والرهن العقاري عام 2008) إلى أزمة تفرض امتصاص المال المتراكم في الأطراف أو الفوائض النفطية، أو حتى الضغط من أجل فرض خفض المستوى المعيشي للشعوب. بالتالي نجد أن الأزمة باتت تفرض ممارسة عملية نهب واسعة في كل أرجاء العالم لكي يستقر الوضع المالي وتتجاوز الطغم المالية أزمة الفقاعات، وهي العملية التي تؤدي إلى تضخم متسارع في المال، يتجاوز التضخم القائم ويقود إلى نشوء فقاعات جديدة أخطر. ومن ثم تصبح هناك ضرورة إلى النهب الأعلى، وفي عملية مستمرة. بمعنى أن الأزمة العميقة للرأسمالية هي التي تفرض العودة إلى النهب عبر آليات القروض التي ترتبط بتحرير العملة ورفع الأسعار والتخلص من أي دور للدولة في الاقتصاد تحت مسمى تصحيح الموازنة بما لا يؤدي إلى عجز فيها. لكن هذه العملية تؤدي إلى توظيف المال الفائض في المديونية من جديد لتحقيق ربح أعلى، وأيضاً تعزيز الانفتاح الذي يسمح للرأسمال الإمبريالي ممارسة كل أشكال النهب. إذن، نلمس بأن هذه العودة لصندوق النقد الدولي نتجت عن الأزمة «المالية» للرأسمالية التي لم يعد لديها من المرونة ما يجعلها تمتص الأزمات في الأطراف، على العكس فقد باتت بحاجة إلى نهب أعلى بغض النظر عن نتيجته المباشرة. فالتراكم المالي في البنوك يحتاج إلى توظيف، وليس من مجال الآن سوى في القروض، لكن أيضاً في تحرير أعلى للاقتصاد وانفلات يسمح بالنهب. وهنا تبدو الرأسمالية عمياء، ويشير إلى ما كانت تسميه الماركسية «تعفّن الرأسمالية». حيث أن صيرورة المال ما عادت تسمح بالتفكير في الآثار «الجانبية»، ولا في النتائج بعيدة المدى أو حتى قريبة المدى. هذا يعني أن نهب الشعوب سوف يفتح على تفاقم الصراع الطبقي على صعيد عالمي، وليس في المنطقة العربية فقط. فالأزمة «المالية» تفرض النهب الشامل، والنهب وفق الآليات التي تمارس يفرض الثورات. نحن على أعتاب ثورات عالمية ضد الرأسمالية إذن. * كاتب سوري - فلسطيني