منذ بدء الثورة صدح صوت من يطالب بالتدخل العسكري «الغربي» (أي الإمبريالي)، والى الآن لم يستجب أحد من كل «أصدقاء سورية»، الذين يقولون إنهم يؤيدون مطالب الشعب السوري «المحقة». ومن يتذكر قليلاً يمكنه أن يستعيد تصريحات كثيرة لكل «المسؤولين الغربيين» تؤكد غياب كل نية للتدخل العسكري، وحتى دعم المسلحين بالأسلحة. أوباما أعلنها مباشرة، وكلينتون كررتها كثيراً، وعلى مسامع بعض أطراف المعارضة. والأمين العام لحلف «الناتو» أيضاً كرر الموقف ذاته، وكذلك فعلت بريطانيا وألمانيا. على رغم ذلك ما زالت بعض أطراف المعارضة (المجلس الوطني) تكرر الطلب للتدخل العسكري (أو الحظر الجوي الذي هو تدخل عسكري، لكن من دون جنود كما جرى في ليبيا). لست هنا من أجل كشف سياسة «غبية»، وضارة، فهذا ما تناولته مراراً، لكنني في معرض تحليل الأسباب التي جعلت هذه الدول الإمبريالية ليست في وارد التدخل العسكري، على رغم شهيتها التي كانت مفتوحة للتدخل في سورية بعد احتلال العراق، وإن لم يكن وقتها من خلال «تكرار التجربة العراقية». وبالتالي لماذا سيبقى «ينعق في الهواء» كل الذين يطالبون بالتدخل، تاركين الأثر السلبي فقط، الذي يتمثل في استثارة كل السوريين المتخوفين من التدخل العسكري الإمبريالي بعد تلمسهم النتائج الكارثية لاحتلال العراق. العالم بعد عام 2008 هو غير العالم قبل ذلك. هذه يجب أن تكون بديهية الآن. وهذا العالم لم يعد هو عالم الهيمنة الأميركية الشاملة، ولا عالم ما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية حيث أصبحت أميركا القوة الوحيدة في العالم، والتي سعت لمدّ سيطرتها على كل مكان فيه، لكي يكون في مقدورها نهبه بما يحلّ مشكلاتها الاقتصادية العميقة التي تراكمت منذ بداية السبعينات من القرن الماضي. وهذه بديهية يجب أن تكون واضحة. ربما كانت لحظة التحوّل التي نعيشها تحجب وعي ما يجري، وفهم طبيعة النتائج التي سيقود إليها «الانهيار المالي» الذي حدث في 14 أيلول (سبتمبر) عام 2008... حيث لم ينته «النظام القديم» بعد، ولم يتشكّل «نظام جديد» كذلك. وضع مشابه أوقع في أخطاء كبيرة (خصوصاً في صفوف اليسار) بعيد الحرب العالمية الأولى، وكذلك بعيد الحرب العالمية الثانية. لكن يجب ألا نتلمس الوضع جيداً لكي نعرف طبيعة الصراعات العالمية المقبلة، ومقدرة القوى الإمبريالية على التحكم بعالم أصبح صعباً التحكم فيه. يجب أن يكون واضحاً أولاً، أن الأزمة التي وصفت بأنها مالية هي ليست كذلك إلا من حيث الشكل، أو المكان الذي انفجرت فيه، لكنها أزمة عميقة تطاول كل بنية الرأسمالية، والأميركية خصوصاً، على رغم أن الترابط المالي العالمي جعلها أزمة كل الرأسمالية، والأوروبية في شكل مباشر. أهمية هذا الكلام هي أن أميركا التي اعتقدت بأن عليها «غزو» العالم لكي تحلّ مشكلاتها الاقتصادية، اكتشفت أن هذا الفعل الذي بدأته بغزو العراق عام 1991 أفضى إلى تعميق الأزمة واستفحالها. أميركا لم تتجاوز الأزمة «المالية» تلك، وهي مهددة بأزمات جديدة. وأوروبا على شفا أزمة كبيرة ستنعكس على أميركا مباشرة وتعمّق من أزمتها. لهذا من يدرس الاستراتيجية العسكرية الأميركية الجديدة، التي أقرها باراك أوباما في شهر نيسان (أبريل) الفائت، سيستشفّ مدى التحوّل في القدرة الأميركية، كما في السياسة الأميركية. فإضافة إلى الخفض الكبير في موازنة وزارة الدفاع، وفي عديد القوات الأميركية، بمن في ذلك مشاة البحرية (المارينز)، انطلقت الاستراتيجية من التخلي عن «نظرية رامسفيلد» التي كانت تؤكد مقدرة أميركا على خوض حربين كبيرتين وحروب عدة صغيرة في الوقت ذاته، لتقرر أن في مقدورها خوض حرب واحدة فقط (وهي الآن ما زالت غارقة في أفغانستان). وبعد أن كانت تعتبر أن «الشرق الأوسط» هو أولويتها، باتت ترى أن منطقة الباسيفيكي/ المحيط الهادي هي الأولوية، ولهذا تعمل على مركزة قواتها هناك، وقد سحبت سفنها البحرية من الخليج العربي لكي تستقر في تلك المنطقة. وأقرت بقاء القواعد العسكرية الأميركية في الخليج، لكن على أن يستخدم الطيران فقط في حال الضرورة. هذه استراتيجية انسحاب من المنطقة، وهي استراتيجية لا تعطي الإمكانية لتدخل، حتى وإنْ بالطيران، في سورية. فقد سمح هذا الانسحاب بأن تتقدم روسيا وتصبح قوة تحاول «ملء الفراغ»، وبالتالي أن تصبح «قوة ردع»، خصوصاً أن كل تدخل في سورية ربما ينقلب إلى صراع إقليمي يحتاج إلى مقدرة أميركية ليست متوافرة الآن. ولا شك في أن النظر إلى التعامل مع الملف النووي الإيراني يوضّح هذه المسألة. بالتالي، أميركا تلملم ما تبقى لها، وتحاول الحفاظ على دونها «دولة عظمى» من دون أن تكون الدولة المسيطرة، في عالم بدأ يشهد نشوء قوى تعمل على أن تفرض سطوتها (روسيا والصين)، وعالم ينقسم إلى «معسكرين» (كما يبدو)، أميركا/ اوروبا واليابان من جهة، وروسيا/ الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا من جهة أخرى... على رغم أن كل هؤلاء يعانون من الأزمة الكبيرة التي لم يعد ممكناً لجمها أو الهروب منها. وهو الأمر الذي بات يضعف السيطرة الإمبريالية بكل أشكالها لمصلحة انفلات الشعوب وميلها للثورة على كل النمط الرأسمالي. لهذا، كانت الثورات في عدد من البلدان العربية، ومنها سورية، والتي ستتوسع أكثر إلى كل الوطن العربي، وتمتد إلى بلدان مثل جنوب أوروبا وشرقها. وهذا الوضع ربما أعطى قوة للسلطة لكي تمارس أقصى عنفها الدموي، لكنه يعطي الأفق لهزيمتها، لأنه جعل الشعب في وضع لا خيار أمامه سوى الثورة من أجل التغيير. وعلى رغم أن السلطة بدت أنها خارج هذا «العالم» في إطار التصنيفات السياسية الدارجة، فقد كانت في بنيته انطلاقاً من التكوين الاقتصادي الذي نتج من انتصار الليبرالية الحاسم منذ خمس سنوات. عالم يتضعضع، ورأسمالية تتداعى، وشعوب تنهض. هذا ملخص «العالم الجديد» الذي يتشكل الآن، فاتحاً لتغيرات هائلة في السنوات المقبلة. * كاتب سوري