حينما انهارت النظم الاشتراكية بدءاً بانهيار جدار برلين قبل عشرين سنة بالضبط، جرى توصيف الوضع بأن الاشتراكية هي أطول الطرق إلى الرأسمالية، كما جرى «التطبيل» لفشل الاشتراكية، والانتصار النهائي للرأسمالية التي باتت هي «نهاية التاريخ». ربما كان هول الانهيار وهول الفرح الرأسمالي هما اللذين حكما طريقة التعامل مع الحدث، وكانا في أساس «الخطاب» الذي تناول كل من الاشتراكية والرأسمالية. فالعجز عن تفسير سبب الانهيار، بعدما كانت الماركسية السوفياتية تزرع على مدى عقود بأنها حققت الانتصار النهائي للاشتراكية، وبأن التاريخ لا يسير إلى الوراء، ما جعل الاشتراكية «معطًى مطلقاً» لا يمكن تصور العالم بدونها، على العكس كان التصور بأننا نعيش «عصر الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية»، هذا العجز هو الذي قاد إلى انقلاب فجائي نحو الرأسمالية، الأمر الذي أنتج فكرة بأن الاشتراكية هي أطول طريق إلى الرأسمالية. كما أن فرح الرأسماليين جعلهم يعتقدون، أو يريدون الاعتقاد، بأن الرأسمالية هي «نهاية التاريخ» ما دامت محاولات تجاوزها قد باءت بالفشل. لكن هل من الممكن لنا اليوم، بعد عقدين من الانهيار، أن نتناول الحدث بروية، ودون تحيزات مسبقة، وبعيداً من «الخضة» التي حدثت والتي أشرنا إليها للتو؟ لقد فشلت التجربة الاشتراكية، فقد انتصرت الرأسمالية بعد ثلاثة أرباع القرن، هذا أمر واقع. لكن هل هذا هو كل الموضوع؟ إن المسألة التي تستحق التأمل هي أثر هذه التجربة في الواقع، حيث لا بد من أن نلاحظ بأن روسيا وكل البلدان التي خاضت تجربة الاشتراكية ليست هي تلك التي كانت قبل ذلك (وربما يجب أن نستثني هنا ألمانياالشرقية وربما التشيك حيث كانتا متطورتين قبلاً). وهنا أشير إلى تغيّر نوعي وليس إلى تغيرات هامشية حدثت في معظم البلدان المتخلّفة. سنلمس بأن هذه البلدان أصبحت دولاً رأسمالية حديثة (على رغم الفارق النسبي مع الرأسماليات الأقدم)، لقد أصبحت بلداناً صناعية متجاوزة التكوين الزراعي والتهميش الذي ما زال يحكم تلك البلدان المتخلّفة. ولقد انتصرت الحداثة فيها وتعمم التعليم، وتشكلت البنى الاجتماعية المدينية. هذا الوضع هو الذي جعل إمكانية استمرار نظام شمولي مسألة مستحيلة. وبالتالي حين نشير إلى انهيار الاشتراكية من الضروري أن نلحظ بأنها انهارت بعد أن «استنفدت أغراضها» في الشكل الذي تحققت فيه، وليس لأنها خيار خاطئ أو لأنها ليست في أوانها. لقد حققت التطور الذي قامت به الرأسمالية طيلة أكثر من قرن، فأسست لنشوء النمط الصناعي الذي لم يعد من الممكن أن تعبّر الأمم عن ذاتها، وأن تتعامل بتكافؤ عالمياً، دون أن تنجزه. وأهمية هذا الموضوع نابعة من أن النمط الرأسمالي الذي بات يهيمن عالمياً يدمر كل إمكانية لتحقيق ذلك، وإذا كان فعل ذلك بالقوة وهو يستعمر الأمم المتخلّفة، وبات الفارق الهائل في التطور يكفل تحقيقه عبر المنافسة والسوق الحرة، فإن هذا الوضع قطع طريق للتطور الصناعي الرأسمالي، وباتت الرأسمالية المسيطرة هنا تابعة أو متكيفة مع مصالح وأغراض الطغم المهيمنة في النمط الرأسمالي. وبالتالي تسربت رأسمالية «سطحية»، تنشط في ما هو مكمل داخل النمط الرأسمالي، أي التجارة والخدمات. بمعنى أن تشكيل نمط رأسمالي صناعي كان قد أصبح مستحيلاً منذ بداية القرن العشرين، ولم يكن من خيار سوى الخيار غير الرأسمالي من أجل بناء الصناعة لكي تكون أساس نشوء نمط رأسمالي حقيقي. ربما لا تجد هذه الفكرة قبولاً من الداعمين الرأسمالية، ولم تفهم من قبل الشيوعيين، لكن النظر إلى تجربة القرن العشرين، من هذه الزاوية، يمكن أن يوضح هذه المسألة، حيث إن «القوى الصناعية» الجديدة هي تلك التي انبثقت من رحم التجربة الاشتراكية. ويمكن أن نوضح ذلك بالإشارة إلى أن الرأسماليات المحلية في الأطراف لم تعد منذ زمن بعيد معنية بالتوظيف في الصناعة، لأن التوظيف هنا يعاني من مخاطر المنافسة الحادة، المحسومة مسبقاً نتيجة الفارق الهائل الذي بات الرأسمال الإمبريالي يتمتع به. ولأن الرأسمالي يهدف إلى الربح وليس صناعة التاريخ يميل إلى القطاعات التي تدر الربح دون مخاطرة، وهي في أوضاع الرأسمالية قطاعات التجارة والخدمات والمال. وهذه لا تؤسس نمطاً رأسمالياً بل تؤسس لتبعية رأسمالية. هذا الوضع يجعل مشروع تشكيل النمط الصناعي من مهمات طبقة أخرى هي في تضاد مع الرأسمالية، ما دام بناء الصناعة بات يتحقق رغماً عنها. لكن هذه الطبقة هنا تحقق بناء الصناعة والحداثة اللتين تحققتا مع نشوء الرأسمالية، وإن كانت تحققهما تحت شعار كبير هو: الاشتراكية. بمعنى أن بناء الصناعة وتحقيق الحداثة بات يتحقق في الصراع مع الرأسمالية وعلى أنقاضها وليس في «حضنها». وهذا ما جرى في البلدان التي دخلت تجربة الاشتراكية، بغض النظر عن كل ملاحظاتنا على تكوينها وسياساتها. ربما لم تصبح هذه البلدان بعد في مستوى البلدان الرأسمالية التي سبقتها بأكثر من قرن، لكنها تسير نحو ذلك، وهناك تخوف رأسمالي من هيمنة صينية، أو ثنائية رأسمالية تقودها روسيا والصين. إذن، لقد فشلت الاشتراكية وتحقق التطور، الذي أفضى إلى انتصار الرأسمالية في هذه البلدان. ربما هذا هو «مكر التاريخ»، لكن كان ذلك هو أقصر طريق إلى الرأسمالية، لأن ليس هناك طريق آخر في كل الأحوال. فهل نريد استمرار التخلف أم يمكن أن نصل إلى الرأسمالية وفق أقصر طريق؟ لكن السؤال الآن هو: كيف يمكن أن يكون هذا الطريق هو أقصر طريق إلى الاشتراكية؟ * كاتب سوري