منذ أن اجتاحت الأزمة الاقتصادية دولتهم، يتابع البريطانيون مسلسلات إغلاق محال والاقتراب من حافة إفلاس شركات بريطانية عريقة عالمية المدى. وينظر البريطانيون بحسرة إلى إغلاق شركة مثل «اكوسكتم» التي اشتهرت بتصنيع أفضل أنواع المعاطف، منذ ما يزيد على160 عاماً. ولقيت سلسلة متاجر التجزئة «إلدر» المصير عينه، وهي التي فتحت أبوابها في العام 1868. لا تعدو هاتان الشركتان كونهما حالتين ضمن ما يفوق 54 شركة فشلت في الاستمرار، بعد أن ظلت تقاوم على مدى عقود، وانحنت أمام العاصفة الأخيرة. ويقدر عدد المحلات التي أغلقت في العام 2012 في بريطانيا بأكثر من 3900 محل، ما ساهم في خسارة أكثر من 48 ألف موظف أعمالهم. كاميرا الخليوي تضرب بقسوة على رغم تعدّد الأسباب التي أرغمت الشركات على الوصول إلى هذه الحافة الخطيرة، إلا ان أحدها كان مُفاجئاً كليّاً، بل أنه تسبّب أيضاً في لجوء 3 من أصل 4 شركات إلى وضع يقارب الإفلاس، منذ مطلع العام الجاري. يتمثّل هذا السبّب في التقنية الرقمية التي يمكن القول ببساطة بأنها أشهرت «حدّها الآخر»، وطعنت 3 شركات تعمل في سوق التصوير وتأجير وبيع الأفلام والمواد الصوتية، في الأيام الأولى من 2013. يبدو وجه التقنية متبسّماً دوماً، لكنه ربما يخفي خلف الابتسامة وجهاً شرساً يطمح لفرض رؤيته على الاقتصاد، على غرار ما فعل في كثير من مناحي الحياة. في مطلع هذا العام، أغلقت شركة «جيسوبز» المتخصّصة في بيع معدات التصوير، قرابة 1800 فرع تابع لها، مع تسريح ما يزيد على 1300 موظف. بدأ تأثير التقنيات الرقمية في الظهور منذ 2009، وفق ما تظهِر القوائم المالية لهذه الشركة. وبنبرة الواثق، يشير المحلّل الاقتصادي نل سندرز إلى أن سقوط شركة «جيسوبز» كان أمراً محتماً. إذ شرع سوق الكاميرات العادية بالانحدار بسرعة في الآونة الأخيرة، إضافة إلى أن الشركة لم تستطع منافسة باعة الكاميرات على الانترنت. وعلى رغم أن سوق الكاميرات الاحترافية ما زال متماسكاً، إلا أن الشركة لم تستثمر فيه بالشكل المطلوب. وتواصل التقنية ذاتها التفافها على عنق الشركة الخاسرة، إذ يؤكد نك بوب، وهو اختصاصي في تحليل أداء محال التجزئة، أن كاميرا الخليوي ساهمت أيضاً في إغلاق محلات «جيسوبز». ووفق بوب، فإن المواصفات التقنية العالية التي تتمتع بها الكاميرات المدمجة في الخليوي وأجهزة اللوح الإلكتروني، دفعت كثيرين إلى الاستغناء عن شراء الكاميرات التقليدية. وباتت هذه الكاميرات الرقمية قادرة على تلبية حاجات المستخدم العادي في التصوير والتوثيق، وفق تصريح لبوب نشرته جريدة ال «اندبندنت» البريطانية أخيراً. بعد أيام من إعلان شركة «جيسوبز» إغلاق أبوابها أمام المتسوّقين، اقتربت شركة «اتش ام في» HMV من إجراءٍ مماثل. ومع اقتراب الشركة من الاحتفال بمئويتها، يبدو أن الخسائر المالية التي تكابدها ستكف يدها عن قطع كعكة هذا العيد. خلال عشرات السنوات، اشتهرت «اتش ام في» ببيع المواد السمعيّة والبصرية على مستوى بريطانيا. لا يكاد المتجوّل في أنحاء بريطانيا وايرلندا يمر بقرية أو مدينة إلا ويجد فرعاً لهذه الشركة التي تجاوز عدد فروعها 239 فرعاً، يعمل فيها ما يزيد على 4500 موظف. في المقابل، سحبت عمليات التأجير والبيع على الانترنت، البساط من تحت أقدام «اتش ام في». وفطن المنتجون إلى هذه النقطة باكراً. واتجهوا صوب السوق الواعد الذي يرفع من مبيعاتهم بتكاليف أقل، وهو ما كان يجدر ب «اتش ام في» فعله قبل 10 أو 15 سنة على الأقل، بحسب رأي مورين هنتون، المُحلّلة في شركة بحوث متخصّصة، نقلته عنها ال «بي بي سي». وتشير هنتون إلى الشركة كانت ستعيش في هذه المرحلة أقوى أيامها، لو أنها لجأت إلى الانترنت باكراً. في حين يشير جلين ميمري، وهو المتخصّص في سوق التوظيف، إلى أن سقوط «اتش ام في» أمر متوقع، بل يأتي ضمن تغيّرات عدّة يشهدها سوق التجزئة البريطاني بسبب الانترنت. ويوضح أن محلات الإلكترونيات والموسيقى والفيديو، ستضرّر أكثر من غيرها خلال الفترة القادمة بسبب الانترنت. التقنية ترسم الحدود تعطي شركة «بلوك بوستر» الأميركية المنشأ، نموذجاً آخر عن ضربات التقنية، وهي تمتلك ما يزيد على 528 محلاً في بريطانيا، يعمل فيها 4190 موظفاً. منذ دخولها السوق البريطاني في العام 1989، تفوقت «بلوك بوستر» على عدد من منافسيها في مجال تأجير الأفلام، بل استحوذت على حصة الأسد فيها. غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، فلم يستطع قبطان «بلوك بوستر» التعامل معها. ومنذ سنوات بدأت تجارة تأجير الأفلام عبر الانترنت تنمو بشكل سريع. في السنوات الأولى لانتشار الانترنت، أتاحت المواقع الإلكترونية لمشتركيها، حرية اختيار عناوين الأفلام والمواد المرئية التي يرغبون فيها لترسلها إليهم مباشرة عبر البريد، ما يغنيهم عن الحاجة للذهاب إلى محال التجزئة. بعد تطور سرعات الانترنت وظهور التلفزيونات الذكية، لم يعد المستخدم بحاجة لانتظار وصول فيلمه المُفضّل عبر البريد، إذ أتاحت له الانترنت السريعة مشاهدته مباشرة عبر الانترنت، أو عبر تلفازه الذكي المتّصل بال «ويب». ونجحت شركات بريطانية كثيرة في هذا الأمر، مثل شركة «لوف فيلم» التي يمتلكها موقع «أمازون.كوم» الشهير. وتسمح الشركة للمشتركين بمشاهدة مواد مرئية عبر الانترنت مقابل اشتراك شهري، إذ فوّتت «بلوك بوستر» على نفسها فرصة المنافسة عبر هذه الطريقة، فارتسم أفق سقوطها المحتم. ليست هذه الشركات الثلاث هي الضحايا الوحيدة للتقنية، بل سبقتها شركات عدّة منها شركة «كلنتون» لبيع بطاقات التهنئة التي يتوقع سقوطها قريباً. إذاً، الأرجح أن التقنية تفرض حضورها في مجالات الحياة كافة. ولا يقتصر تأثير الانترنت على الشبكات الاجتماعية أو أشكال الإعلام البديل. باتت التقنية لاعباً أساسيّاً في السياسة كما في الاقتصاد، وتفرض نفسها رقماً صعباً في كل معادلات الحياة. لم يعد تجاهل التقنية وأثرها في مناحي الحياة المختلفة، أمراً صائباً. ومن دون كبير مجازفة، من المستطاع القول إن صُنّاع القرار باتوا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما تبنّي التقنية، أو أن الأخيرة ستتجاوزهم، وتتركهم وراءها يراقبون ابتعادها المتواصل بحسرة وألم.