أن تعمل تحت الضوء يعني أن تتوقع النقد والملاحظات، وحتى التجريح، أو أن تتلقى الثناء والإطراء والمديح. تقول كاترين دونوف إنك «متى اخترت طريق الشهرة فهذا يعني أنك سلمت حياتك بكاملها للرأي العام، وعليك أن ترضى بالنتائج». طبعاً ليس للجميع شكيمة سعيد تقي الدين أو قوته، أو حتى قناعته بمقولته «الرأي العام بغل»(!) لكي يديروا ظهورهم للرأي العام ويقولوا كلمتهم ثم يمشون، على ما ذهب كامل مروة، لذا نرى غالبية المشاهير تأخذ في الحسبان انعكاس ما تقوم به على الآخرين، وتحرص على مداراتهم ومجاراتهم، ويصل البعض الى حد الوقوع في أسر «الكادر» أو الصورة المرسومة له بفعل الكاميرات والأضواء. ما عليه. طوال فترة عملي تحت الضوء -و قد تجاوزَتِ العقدين من الزمن-، سمعتُ الكثيرَ من الثناء، مثلما أصغيتُ إلى الكثير من النقد والملاحظات، لكن «أغرب» ما قيل لي كان من سيدة تعليقاً على حوار تلفزيوني لي مع أحد كبار الكتّاب العرب، قائلة: «إنك تُحْسِنُ (بكسر السين) إلينا بما تقدمه من مادة ثقافية باتت عملة نادرة في الإعلام العربي». طبعاً رفضتُ أن تضعني السيدة الفاضلة في مَصاف المُحسنين، لأنني أقوم بعملي وحسب، موضحاً لها أن ثمة زملاء كراماً يقدّمون برامج تستحق التقدير والاحترام، ولو فرضنا جدلاً أن هناك «إحساناً» في الحوارات التلفزيونية الثقافية، فالفضل يعود أولاً وأخيراً إلى المبدعين الذين يظهرون في تلك البرامج فيُثرون الشاشات العربية بكنوز فكرهم ووعيهم، حتى وإن كانت إطلالاتهم نادرة بسبب نظرية «الجمهور عاوز كده»! بيت القصيد في ما أود قوله، أن المادة الثقافية باتت عملة نادرة في الفضائيات العربية، إلى درجةِ أنْ صار البعض يعتبرها صَدَقةً وإحساناً وتَفضّلاً من الشاشة أو من المُحاور (بكسر الواو)، فيما تفيض الشاشات بكل ما هو غثّ وسطحي وعابر، وبكل أنواع البرامج اللاعبة على الأوتار الغرائزية، من الجنس إلى الطائفية وما بينهما، ويا ليتها تقارب موضوعات الدين والجنس والسياسة مقاربة مهنية وموضوعية، فمجتمعاتنا بأَمَسّ الحاجة إلى كسر ذاك الثالوث المحرم، لكنّ مقاربتها بطريقة مُبتذلة وتافهة تجعل تخطيها وتجاوزها أكثر صعوبة وأبعد منالاً. يتذرع القيمون على الفضائيات بأن الثقافة لا تجذب المشاهدين ولا تجلب المعلنين، رافعين في وجهك تلك الكذبة البائتة «الجمهور عاوز كده». التمسح بالجمهور مجرد ذريعة لعجز هؤلاء أو لخوائهم. متى أنفقتم يا سادة يا كرام على البرامج الثقافية ربع ما تنفقونه على برامج المنوعات ولم تُفلح ساعتها الثقافة في الجذب والجلب؟ ثم أَتصحُّ تلك المقولة البائخة التي تجعل «الجمهور» يصنع تحوّلات جذرية في المجتمعات العربية على الصعد كافة، إلاّ حين يصل الأمر إلى أن التلفزيون يصبح «عاوز كده»!؟ أكادُ أُقسمُ، أنه لو حظيَتِ البرامج الثقافية بما تحظى به برامج الترفيه والتسلية (وبالمناسبة نحن لسنا ضد الترفيه والتسلية لكننا ضد اقتصار دور التلفزيون عليهما)، لكانت اكتسحت الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، لكن على ما يبدو، فإن الثقافة في آخر قائمة الاهتمام، إن لم تكن غائبة كلياً عن بال هؤلاء الذين لا همَّ لهم سوى إرضاء المعلنين بالطرق الأسرع والأسهل، وتالياً الطرق الأكثر سطحية وتفاهة وخواءً. يقول المطران المتنور جورج خضر: «الثقافة ليست حِذْقاً وزُخْرُفَ فكر، ولا إغراءَ جمالية ما، إنها طلبُ مجاهد للحق، وعشق الحضور الإنساني الكامل في اخلاص نُسك (...). هي أن يسعى الإنسان إلى كل أبعاده الممكنة، كي لا يتعدى على الوجود». ليت القيمين على البث في بلادنا يدركون معنى الثقافة وجدواها، كي لا تصبح حقاً صَدَقةً على أبواب المُحسنين!