انسحاب يهجس ديف إيغرز بتضاؤل أميركا في العالم في روايته الأخيرة الصادرة في بريطانيا عن دار هاميش هاملتن، والمرشحة لجائزة الكتاب الوطنية. يشكو الكاتب الأميركي من كونه بات في منتصف العمر، لكنه يملك طاقة طفل مصاب بالحركة المفرطة. يكتب الروايات والسيناريوات والقصص القصيرة والكتب غير الأدبية. يؤسّس دار نشر ومجلتين يحرّر إحداهما. ويشترك في إنشاء منظمة «فالنسيا 826» الخيرية التي تعلّم الأحداث المحرومين القراءةَ والكتابةَ في تسع مدن أميركية. إيغرز في الثانية والأربعين، وقال لصحيفة «أوبزرفر» أواخر الشهر الماضي إنه يشعر بأن كل أضلاعه مكسورة. بدا ذلك كافياً ليفهم بطله المتوسط العمر في «صورة مجسّمة للملك» التي تنحسر فيها هالة الفوز في الثقافة الأميركية. آلان كلاي مستشار في الرابعة والخمسين يقصد السعودية مع زملاء عشرينيين يسخرون من جهله وافتقاره إلى الجاذبية. عليه أن يبيع تقنية جديدة للاتصالات تنقل صورة الناطق بأبعادها الثلاثة إلى من يحدّثه، لكنه لا يفهم تماماً ما يبيعه. يغادر الفندق كل صباح إلى خيمة في الصحراء لينتظر مسؤولاً كبيراً يحدّد مصيره بكلمة. كل صباح يغادر إلى الصحراء لكن المسؤول لا يصل. يقدّم إيغرز للرواية بعبارة من «في انتظار غودو»: «الآخرون لا يحتاجون إلينا كل يوم». قد لا يحتاجه أحد بتاتاً بعد اليوم، يخشى الرجل الأخرق الذي فشل ابناً وأباً وزوجاً ورجل أعمال، وبات شبه مفلس وشبه موظف. تحرقه الصحراء وأمله في الفوز بالصفقة لإنقاذ نفسه ودفع أقساط ابنته في الجامعة، فيحرق الوقت في الحفلات والشرب ومحاولة تجاهل ديونه والورم في ظهره. يجد آلان نفسه فجأة في مواجهة حياته ويتساءل عن فحواها. يقارن نفسه بوالده، الجندي الشجاع الذي تحوّل مناضلاً عمالياً، ويتصل به ذات مساء عند عودته إلى الفندق. بدلاً من تقديم النصح يذكّره بأنه وقع ضحية خطيئة شخصية. بدأ حياته بائعاً جوالاً، وارتقى السلم في مصنع شوين للدراجات في شيكاغو، ثم نقل الإنتاج إلى الصين لزيادة الأرباح. «كل يوم يبني الأميركيون مواقع إلكترونية وصوراً مجسّمة وهم يجلسون على الكراسي التي صنعت في الصين، ويعملون على كومبيوتر صنع في الصين، ويتنقلون فوق جسور بنيت في الصين». يغلق آلان الخط. يغلق أيضاً باب السلوى. تعرض عليه مواطنة له في حفلة علاقة حرة، فيقبّلها على جبينها ويعود إلى فندقه. يخضع لحال شلل لا تواصل ناجحاً فيها إلا مع سائقه الشاب يوسف. على أن هذا أيضاً يحتاج إلى أن يتذكر ما الذي يحبه فيه حين يقدّمه إلى أسرته. يسمع آلان زملاءه يهجونه فيردّ إنه سبح يوماً مع التماسيح في نهر نيغرو. لا يذكر أن الثقوب في قاربه أغرقته، ويستنجد ببطولة فارغة لا تنقذه من حكم الشبان اللئيم والصحيح. يصارح زميلاً بأنه يشعر كأنه لوح زجاج يجب تحطيمه. قورنت الرواية بمسرحية آرثر ميلر، وأضيف إلى موت البائع المتجول مناخ العولمة والهبوط الأميركي. على البائع أن ينتظر وينتظر من دون أن يركض الآخرون لاهثين نحوه لأن بلاده زعيمة الأرض. لا يعرف ما إذا كانوا سيأتون أصلاً. يكبر المشروع الروائي في «صورة مجسّمة للملك» وتقتصد اللغة وتنضبط. بات يفضّل نشر الأعمال المكتوبة جيداً وبأسلوب عادي على الطريقة القديمة بعد أن سعت داره أولاً إلى كتب تعتمد أشكالاً اختبارية ناجحة أو مثيرة للاهتمام. أطلّ في بداية الألف الثالث ب «عمل يحطم القلب ذو عبقرية مذهلة» التي روى فيها كيف ترك الجامعة ليعنى بشقيقه الصغير إثر وفاة والديهما بالسرطان خلال أسابيع. لفت الكتاب بطاقته الفوارة ومرحه الساطع والحواشي ما بعد الحداثية والصفحات البيضاء، وبدا سعيداً وواثقاً بادعائه وزوائده. خيّب «نعرف سرعتنا» التوقعات، وكان الكتاب الثالث «ماذا في الماذا» عملاً مشتركاً مع اللاجئ السوداني فالنتينو أشق دنغ عن رحلته المريعة إلى أميركا. كتب «زيتون» عن عبدالرحمن زيتون، المهاجر السوري الذي تنقل بقاربه في شوارع نيو أورليانز ليساعد الناجين من إعصار كاترينا، ليفاجأ باتهامه بالإرهاب. خصّص ريع «ماذا في الماذا» لمدرسة بناها دنغ، ودعا إلى احترام خصوصية أسرة زيتون حين دين عبدالرحمن العام الماضي بضرب زوجته واتُهّم بالتآمر لقتلها مع اثنين آخرين. حرب بهيجة ابتهج غراهام غرين بالغارات على لندن وعمل مرشداً للمدنيين خلالها. أسره جمال النيران المشتعلة في المباني، وخرجت زميلته الكاتبة ومرشدة الغارات إليزابيث بووين مع ضيوفها إلى شرفة منزلها في ريجنتس بارك للتمتع بالمشهد. كتب غرين: «كانت لندن رائعة خلال الغارات، بلا أضواء في الشوارع، بلا سيارات أو مشاة يذكرون، مجرّد مدينة قاتمة فارغة، ممزقة بالانفجارات، عابقة برائحة الحرائق، مضاءة بنيران متوهجة، بدخان لاذع، هواؤها مفعم بغبار الأبنية المتهاوية». في «تعويذة حب القنابل: حيوات قلقة في الحرب العالمية الثانية» الصادر عن دار بلومزبري، تختار لارا فيغل أربعة كتّاب بريطانيين لزموا لندن خلال الهجمات الجوية النازية الكثيفة التي استمرّت من آخر صيف 1940 إلى آخر ربيع 1941. كل من غرين وبووين وروز ماكولي وهنري يورك، الذي اعتمد اسم هنري غرين للكتابة، مارسوا الجنس على وقع الانفجارات، وكتبوا عن حياتهم القريبة من الموت فيها. نام غرين مع دوروثي، ابنة صاحبة المنزل، ويورك مع موديل فنان، وبووين مع ديبلوماسي كندي شاب. دمّر القصف منازل غرين وبووين وماكولي وجورج أورويل، فكتب الأول عن «التأثير المكسيكي للكنائس المدمّرة». كان يورك ابن صناعي ثري وتطوّع للعمل إطفائياً. اقتنع كغرين بأنه سيموت في الحرب، ووجدا الحل بذلك لمشاكل وجودية كثيرة. ارتاحا لاكتشافهما الشجاعة التي أبدياها في المحن، لأنهما كان عليهما لعب دور ولأن الآخرين، الرفاق، كانوا يراقبونهما. كتب غرين لوالدته أن رؤيته جثة للمرة الأولى لم تكن سيئة بالمقدار الذي توقّعه. تطوّعت ماكولي لقيادة سيارة إسعاف، ووقفت ذات ليلة تتفرّج عاجزة على المسعفين وهم يخرجون امرأة حيّة وأطفالها الأربعة القتلى من تحت أنقاض منزلها. استعارت فيغل عنوان كتابها من قول غرين إن انفجار القنابل خلال الغارات سمّر المرء مثل تعويذة حب. كره الحياة ونفسه، ورحّب بالدمار الذي رآه رؤيا مطهّرة. لم يحزن على القتلى لأنه آمن ككاثوليكي أننا نكافأ أو نعاقب بعد الموت. لم توحِ الحرب العالمية الثانية أدباً يلخّصها كما فعلت قصائد الشعراء الشباب من ضحايا تلك الأولى. لكن إيفلين وو الذي قاتل في دكار شعر بالغيرة من زملائه الذين أطفأوا الحرائق ليل نهار في الوطن، وشبّه الجنود بالزوجات اللواتي يقرأن الرسائل الواردة من الخنادق. غرقت المدينة في العتمة، وقُنّنت الأغذية، وأرسل الأطفال إلى الريف ليعيشوا مع عائلات غريبة لا يعرفون كيف ستعاملهم. اهتز الوعي الطبقي، وساد جوع إلى الجنس الذي ساوته برودنس في «مقبوض عليه» ليورك بالحرب. سألت الفتيات رفيقاتهن عما إذا كان الشبان الذين سيخرجن معهم تلك الليلة يستحقون الموت معهم. خالط الخوف الإثارة، وأحسّ كثيرون بعد الحرب بأنهم لن يعرفوا الزخم نفسه ثانية. عرفت بووين الروح الجماعية التي ولّدتها الغارات في الأسابيع الأولى، وعلّمتها رفيقاتها المرشدات حياكة الصوف. لاحظت أن انعدام العناية بالهندام والغبار الذي يغطي الجميع يضفي مساواة طبقية، لكن الكُتّاب تملّصوا من التقنين بقدرتهم على ارتياد المطاعم، وأرسل غرين ويورك أسرتيهما خارج لندن. قصدت بووين منزل الأسرة في إرلندا المحايدة حيث أمضت أشهراً، ونعمت بالترف الغائب في إنكلترا المقاتلة. صدمها فوز العمال في نهاية الحرب التي ربحها المحافظون، ورأته فشلاً في الذوق في حين خشي يورك من زيادة الضرائب على مصنع أسرته. هجر غرين دوروثي وزوجته، وأغرم بسيدة مجتمع أميركية حاول عبثاً إقناعها بترك زوجها الثري. جمعت التديّن والشراهة الجنسية، وارتبطت بعلاقات مع مستشاريها الروحيين، واختارت وغرين القديسة تيريز دو ليسيو شفيعة لقاءاتهما. كرّس يورك نفسه للشرب والشابات، وتركت ماكولي دمار لندن خلفها للسياحة في المتوسط والعالم. نشرت «بهجة الدمار» قبل وفاتها في 1958، ورَثت فيه ضحايا الغارات على مدينتها بطريقة غير مباشرة.