رسم رئيس الحكومة السابق زعيم تيار «المستقبل» سعد الحريري في واحدة من أنجح المقابلات التلفزيونية التي أجريت معه، الإطار العام لخريطة الطريق للمرحلة السياسية المقبلة التي ستكون موضع أخذ وردٍّ بين المكونات الرئيسة في لبنان، خصوصاً أنه سيصار إلى قوننتها من خلال اقتراح قانون سيتقدم به عدد من نواب كتلة «المستقبل» من رئاسة المجلس النيابي الإثنين المقبل بالتزامن مع استئناف لجنة التواصل النيابية اجتماعاتها في محاولة للتوافق على قواسم مشتركة لقانون انتخاب جديد يجمع بين النظامين الأكثري والنسبي. واللافت في المواقف التي حدّدها الحريري أنه تجرّأ على اتخاذ موقف إيجابي من الزواج المدني الاختياري بقوله إنه يتمنى أن يسير هذا الموضوع في الطريق إلى الدولة المدنية مستفيداً من الأسلوب الذي استخدمه مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني في معارضته له والذي لم يلقَ استحساناً، حتى من قبل من يدعمه في المبدأ في موقفه، لأنه سارع إلى تكفير من يقدم عليه وبتعابير قاسية جداً. ومع أنه لا بد من مراقبة ردود الفعل على موقف الحريري من الزواج المدني، فإنه تسجل له جرأته في اتخاذ هذا الموقف مقدراً رفض المرجعيات الروحية، إسلامية كانت أو مسيحية، التي اعترضت عليه لكنها لم تلجأ إلى استخدام التعابير التي وردت على لسان مفتي الجمهورية اللبنانية. ناهيك بأن الحريري حدد موقفه من الزواج المدني في ظل تصاعد نفوذ المجموعات المنتمية إلى تيارات سلفية عدة وأخرى متشددة وانطلاقاً من قناعته بأن هناك ضرورة للحفاظ على العيش المشترك وأن الاختلاف أمر طبيعي وإنما تحت سقف احترام الرأي الآخر وعدم تكفيره، ومن تقديره لدور المجتمع المدني. وإلى حين اكتمال المواقف السياسية من ردود الفعل على العناوين الرئيسة التي طرحها الحريري لا بد من التوقف أمام النقاط الأربع التي ستترجم في اقتراح القانون الذي سيتقدم به عدد من نواب «المستقبل» من رئاسة المجلس النيابي وأبرزها. - إجراء تعديل دستوري بما يتيح ضم ما ورد في «إعلان بعبدا» الذي أجمع عليه أطراف جلسة الحوار الوطني في بعبدا إلى صلب مقدمة الدستور اللبناني باعتبارها من الثوابت غير القابلة للنقض. - الإسراع في استحداث مجلس للشيوخ انسجاماً مع ما نص عليه اتفاق الطائف على أن يصار إلى تشكيله وفقاً لما هو وارد في مشروع اللقاء الأرثوذكسي وأن يكون دوره محصوراً في البت بالقضايا المصيرية. - تطبيق اللامركزية الإدارية التي باتت ضرورة ولم يعد من الجائز التمهل في إتمامها لما لها من دور في تفعيل الإدارات العامة وتسهيل الاستجابة لحاجات اللبنانيين بعيداً من الروتين الإداري. - التريث، حتى إشعار آخر، في إلغاء الطائفية السياسية على صعيد المجلس النيابي وعدم ربط تشكيل مجلس الشيوخ بإلغائها. وفي السياق ذاته أكد الحريري رفضه مشروع اللقاء الأرثوذكسي لأنه يدفع في اتجاه تمزيق لبنان وتطييفه، لافتاً إلى أن تبديد الهواجس والمخاوف لن يتم من خلال عزل طائفة عن أخرى. ورأى الحريري في مقابلته أن الظروف الراهنة لا تسمح باعتماد النظام النسبي في ظل استمرار ظاهرة السلاح الذي يجب أن يكون تحت كنف الدولة من دون أن يقفل الباب أمام الحوار في شأنه، مع أن تأييده غير المشروط لإعلان بعبدا ينطلق من أن هذا الإعلان تضمن آلية لتنظيمه على أساس أن المرجعية فيه تبقى حصراً للدولة اللبنانية. وعلى رغم أن الحريري التقى مع رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان في رفضهما المشروع الأرثوذكسي، فإنه شدد على عدم معارضته إجراء الانتخابات على أساس هذا المشروع في حال إقراره في البرلمان مع الاحتفاظ بحقه في الطعن فيه. كما أن الحريري، وإن كان يتعارض في الموقف مع رئيس الجمهورية المؤيد لاعتماد النظام النسبي، فإن مواقفه من الأخير فتحت الباب أمام إعادة ترميم العلاقة بينهما بعد «الانتكاسة» العابرة التي تسبب بها الاختلاف حول القانون النسبي. لكن الحريري أقفل الباب، على الأقل راهناً، أمام الاتفاق على المرحلة السياسية المقبلة قبل أن يصار إلى إجراء الانتخابات وهذا ما يرفضه «حزب الله» إضافة إلى رفضه طلب الحريري تغيير قواعد اللعبة السياسية لجهة عدم تأييده معادلة الجيش والشعب والمقاومة واعتباره أن البديل لها يكون في تطبيق «إعلان بعبدا». الاشتباك السياسي مع «حزب الله» باق كما أن الحريري أبدى تشدداً في رفضه القبول، في حال تكليفه، تشكيل الحكومة للثلث الضامن في مجلس الوزراء، وفي تحميل «حزب الله» مسؤولية ضرب مشروع الدولة وبالتالي فإن الاشتباك السياسي بين الأخير و «المستقبل» سيبقى قائماً وربما سيتصاعد تدريجاً. إلا أن الحريري توجه في الوقت نفسه من رئيس المجلس النيابي نبيه بري بموقف إيجابي هو الأول له بعد إطاحة حكومته من دون أن يقحم نفسه في معركة مع «التيار الوطني الحر» بزعامة العماد ميشال عون مكتفياً بالسؤال ما إذا كان الأخيرة سيتخلى عن قانون الانتخاب لعام 1960 الذي عدل في مؤتمر الحوار الوطني في الدوحة لو أن القانون أتاح له تحقيق الأكثرية في البرلمان، لا سيما أنه تعامل مع التعديلات على أنها أعادت للمسيحيين حقوقهم في التمثيل النيابي. أما في شأن علاقته برئيس «جبهة النضال الوطني» وليد جنبلاط، فإن الحريري أقرّ بوجود هواجس لديه كالآخرين من المسلمين والمسيحيين ما اعتبر تعبيراً عن وجود رغبة مشتركة في استمرار التواصل إفساحاً في المجال أمام إمكان التفاهم، خصوصاً أن زعيم «المستقبل» تبنى في مبادرته النظام الأكثري على أساس تقسيم لبنان إلى دوائر انتخابية صغرى. وبدا الحريري من خلال طروحاته كأنه يريد التوفيق بين جنبلاط، في ظل عدم استبعاده للتعاون الانتخابي معه، وبين حلفائه في قوى 14 آذار، لا سيما أنه لم يتبنَّ أي تقسيم محدد لهذه الدوائر، علماً أن الحريري ورئيس «التقدمي» خرجا أكثر ارتياحاً وتفاعلاً بعد اجتماعهما في باريس. كم أن الحريري لم يتنكر للهواجس لدى هذه الطائفة أو تلك، وهو دعا إلى التعاون من أجل تبديدها وتفكيكها بدلاً من استخدامها في «المناورات» السياسية التي قد تطيح إجراء الانتخابات في موعدها. لهذا السبب لمّح الحريري إلى الهواجس أو المخووف المتبادلة بين السنّة والشيعة أو تلك القائمة بين المسلمين والمسيحيين، إضافة إلى المخاوف المشروعة لجنبلاط من جميع هؤلاء في حال التعامل مع الطائفة الدرزية التي هي جزء من المسلمين وأساسية في المعادلة اللبنانية على أنها أقلية. تأكيده حياد لبنان وفي السياق يأتي اقتراحه تعليق العمل بإلغاء الطائفية السياسية في البرلمان والشروع بتشكيل مجلس الشيوخ الذي هو بمثابة شبكة أمان سياسية للجميع كونه الوحيد المؤهل للبتّ في القضايا المصيرية ويعطي لكل طائفة حق «الفيتو» عليها. إضافة إلى أنه توجه إلى المناطق اللبنانية لتبديد ما لديها من هواجس بسبب الإخلال بالإنماء المتوازن معتبراً أن تطبيق اللامركزية الإدارية المدخل لتوفير الحلول له. كما أن الحريري توخى من خلال تأييده «إعلان بعبدا» تأكيد دور لبنان الحيادي وعدم استيراد المشكلات إليه، ورفضه توطين الفلسطينيين أو استقواء بالتغيير في سورية كعامل ضاغط للإخلال بصيغة العيش المشترك والمعادلة السياسية القائمة في البلد. إلا أن الحريري توجه بعرض هادئ من حلفائه في 14 آذار، ولم يكتفِ بالقول إن لا مستقبل من دونهم كما قالوا إن لا مستقبل بلا تيار «المستقبل» وإنما صارحهم من دون «كفوف» وقدم لهم «إغراء» سياسياً تمثل في إعادة الاعتبار للبحث في «الدوائر الصغرى» التي كانت اقترحتها الأحزاب المسيحية المنضوية تحت لواء المعارضة، وعدد من النواب المستقلين. وهناك من يؤكد أن الحريري حشر إيجابياً حليفيه حزبي «الكتائب» و «القوات» بدعوتهما إلى الانطلاق في البحث عن قانون انتخاب جديد قاعدته الدوائر الصغرى كبديل من «الأرثوذكسي». فهل يرفضان العرض أم سيعيدان النظر في موقفهما لمصلحة تسويق مثل هذا العرض؟ وبكلام آخر، دعا الحريري حلفاءه إلى التخلي عن «الأرثوذكسي» لمصلحة إحياء الدوائر الصغرى من دون أن يحصر مبادرته بتقسيم معين لهذه الدوائر التي يمكن أن تنطلق من قانون 1960 من أجل تطويرها. وعليه، هل تعيد مبادرة الحريري خلط الأوراق بحثاً عن قانون انتخاب بديل وماذا سيكون رد حزبي «القوات» و «الكتائب» على اقتراحه، وهل يبديان استعداداً لملاقاته في منتصف الطريق؟ لا سيما أن مبادرته في هذا الخصوص تلتقي مع موقف جنبلاط من قانون الانتخاب ويمكن توفير حد أدنى من التفاهم شرط إبداء هؤلاء الأطراف مجتمعين النيات لتقديم تسهيلات متبادلة تفتح الباب أمام تسويقه. مع أن معظم المكونات المنتمية إلى 8 آذار ستعترض عليه وربما ستندفع لرفع الغبار عن مشروع الحكومة الذي أظهرت النقاشات سواء في اللجنة الفرعية أم اللجان المشتركة أنه منسي...