قصة حب مستحيلة أو غير محتملة الحدوث مدعومة بغناء ورقص لتخفيف حدة مآسيها أو على العكس لشحذها بعواطف جديدة ومرح مؤكد... تلك هي خلفية معظم أفلام السينما الأكثر شعبية في الهند، والتي بات الكل يعرف أنها تسمى أفلام بوليوود (ولمن لا يعرف فهي مشتقة من كلمتين بومباي وهوليوود)، بومباي لأن معظم تلك الأفلام تصور فيها، وهوليوود لتشابه ضخامة الإنتاج من حيث الكم... بتأثيرها الذي لا يضاهى في السكان في الهند وخارجها، وبنزعتها نحو الرومانسية و «تمثلها ودفاعها عن قيم الحب والأمل ودفء العلاقات الإنسانية والصداقة وهي القيم التي يحتاج إليها العالم اليوم»، كما شهد أحد نجومها الأكثر شعبية في الهند، عبرت تلك النوعية من الأفلام الحدود. إنها للجمهور العريض الذي لا يتحرج، على الأقل هنا في الهند، من ذرف الدموع والانفعال مع كل كلمة وحركة. جمهور يتوجه بعضه لرؤية الفيلم مرات عدة، ما يعطي السينما الهندية مكانة مميزة في الاقتصاد المحلي. بليون يورو وأكثر إنها صناعة بكل معنى الكلمة يتجاوز التعامل فيها البليون يورو، فالأرقام تبدي أن أكثر من أربع مليارات بطاقة تباع سنوياً في الهند. وتشير أرقام أخرى إلى أن أربعة عشر مليون هندي يذهبون للسينما يومياً، وأن ألفاً وخمسمئة فيلم ينتج سنوياً نصفها في بومباي. تمثل أفلام بوليوود ثلاثين في المئة من الإنتاج السنوي في الهند (والبعض يقول خمسين) وتحقق تلك تسعين في المئة من دخل الصالات المحلية. ويساهم نجوم كبار مثل سلمان خان وشاه روخان وأمير خان (لا يعني اسم خان أنهم من العائلة نفسها) في نجاح السينما البوليوودية واستقطاب الجماهير. وللسينما الهندية في التاريخ المعاصر أدوار أخرى، فقد لعبت كعامل توحيد للأمة. بعد الاستقلال عن بريطانيا، رغب نهرو (رئيس الوزراء حينذاك) أن يجمع بلداً مجزءاً إلى مقاطعات عدة ذات لغات وثقافات متباينة، فقرر تشجيع وتطوير سينما هندية باللغة الهندية في بومباي عاصمة بوليوود الحالية. وكان نجاح المسعى إلى درجة أن تلك السينما سرعان ما تحررت من اقتصاد الدولة لترتبط باقتصاد السوق، وهي اليوم لا تستفيد من أي دعم حكومي، لكن دورها كرابط وطني حافظ للوحدة القومية في الهند ما زال قائماً. «كوليوود» وسينما المؤلف مضمون اجتماعي وأغانٍ عاطفية مثيرة للشجن وللفرح هما إذاً ما جعلا من تلك السينما الأولى في نسبة الإنتاج والإقبال في الهند. بيد أن السينما الهندية التي احتفلت العام الفائت بمرور مئة عام على ظهور أول أفلامها لا تنحصر في هذا الإطار، لحسن الحظ! منتصف الخمسينات كانت البداية مع مخرج فريد متعدد المواهب، قدّم سينما فنية تنتمي لما يطلق عليه سينما المؤلف. هذا السينمائي الذي استلهم الواقع بما فيه من ثراء روحي لم يأتِ من بومباي التي لم تتسع على أية حال لغاية اليوم إلى هذه النوعية من السينما، بل من غرب الهند ومن مدينة كلكوتا في مقاطعة البنغال الغربي. «ساتياجيت راي» الذي رحل بداية التسعينات بعد أن قضى أربعين سنة خلف الكاميرا، قدم للسينما الهندية الفنية أكثر من ثلاثين فيلماً تعتبر اليوم من التراث الكلاسيكي ليس للسينما الهندية فحسب، بل للسينما العالمية كذلك. ثمة مخرجون آخرون من البنغال قدموا أيضاً هذه السينما الفنية البالغة الرهافة باللغة البنغالية، وثمة آخرون آتوا من مقاطعات أخرى وينتجون أفلاماً باللغات المحلية. بعض تلك ينتمي إلى سينما المؤلف كأفلام المخرج الكبير آدور غوبالا كريشنا من كيرالا (بلغة مالايالام) في الجنوب، وبعضها الآخر يسير على خطى سينما بوليوود من حيث الشكل والمضمون وحتى التسمية، ولكن ليس باللغة الهندية. فعلى سبيل المثال في مقاطعة «تاميل نادو» وعاصمتها مدراس، تسمى تلك السينما «كولي وود» (جمع بين اسم الحيّ الذي يحتوي على استوديوات السينما وهوليوود). إنما ثمة «توجهات جديدة» تقف بين التوجهين السابقين غدا وجودها ظاهرة مميزة للسينما الهندية المعاصرة، وبات من المستحيل تجاهلها. سينما جديدة تغزو العالم بتناولها مواضيع اجتماعية محلية ذات بعد عالمي وتبحث عن اعتراف خارجي وقبول جماهيري بعد أن حصدت سينما المؤلف اعترافاً نقدياً ونخبوياً إن جاز القول. سينما غير بوليوودية تفرض نفسها وتجذب ليس فقط المهرجانات الدولية، بل دور العرض العالمية. إنها موجة هندية جديدة في بلد الاثني عشر ألف شاشة. طريق جديد يمكن القول إنه طريق جديد في السينما الشعبية الهندية يغني الفن السابع وتحصد أفلامه نجاحاً لا بأس به عند عرضها سواء في الهند أم في الغرب، يعتمد أجواء وعوالم تذكر بأفلام الجريمة المنظمة الهوليودية، أعمال منفذة بإتقان مدهش على صعيد الصورة والتقطيع. ثمة أفلام ثلاثة تجسد تماماً هذا الاتجاه، لا يمكن إلا البدء بأفضلها وأكثرها شهرة. «عصابة واسي بور» للمخرج أنوراج كاشياب «عبقري السينما البوليودية» كما يحلو لأحد النقاد السينمائيين هنا أن يسميه لنا، إذ هو لا يفرق بين تلك الأفلام وأفلام بومباي الأخرى فمنتجو هذه السينما يحاولون برأيه القول إنها ليست بوليوودية بهدف إيجاد أسواق خارجية. بأية حال، فإن هذا الفيلم الذي عرض في أسبوع المخرجين في «كان» 2012، هو خلطة ناجحة من فيلم «العراب»، من سينما سكورسيزي وأفلام بوليوود، إن كان لم يتخلص حقاً من الإرث البوليوودي فهو أكثر حرية واكتمالاً بما لا يقاس شكلاً ومضموناً. أسطورة ملحمية ملأى بالحيوية، بالغنائية وبالقسوة. لا رقص فيه إنما غناء يأخذ دور الموسيقى التصويرية، لا زينة لامعة وإنما فحم ودماء. فيلم عن أحداث حقيقية لمدينة تعيش مواجهات ثلاثة أجيال من العصابات التي تتوارث العنف والجريمة أباً عن جد. من الجد الذي انطلق مع السطو على القطارات البريطانية وكانت له سلطة مطلقة على عشيرته، مروراً بابنه الذي أقسم على الانتقام لمقتل أبيه وأصبح الرجل الأكثر ترهيباً في واسي بور، وصولاً إلى الحفيد فيصل (نواز الدين صدّيقي) المحشش العنيف بلا رحمة. أما فيلم «مس لوفلي» للمخرج هاشم أهلواليا الذي اختير أيضاً في مهرجان كان 2012 (قسم نظرة ما)، فهو عن العالم الخفي لسينما البورنو التي تصور في بومباي على رغم المنع. كان مقرراً للفيلم أن يكون وثائقياً، ولكن رفض البعض الكشف عن وجوههم خوفاً من الملاحقة القانونية حولّه إلى فيلم روائي. في بومباي منتصف الثمانينات شقيقان شريكان في العمل والجريمة، يصوران أفلام رعب وجنس وعصابات من الدرجة السفلى. أفلام لا تظهر إلى العلن، ملاحقة قانونياً. إنه عالم لا مكان فيه للحب البريء ولا مجال للبحث عن الخلاص، الشقيق الأصغر (الممثل الرائع نواز الدين صدّيقي) يندفع للقتل والجنون. أما آخر ما أنتج في هذه السلسلة العنيفة، فهو «تيتلي» أو الفراشة باللغة الهندية، للمخرج كانو باهل. عرض الفيلم في قسم «نظرة ما» كذلك في مهرجان «كان» الأخير ورشح لجوائز عدة. صورت الأحداث في ضواحي دلهي، هنا أيضا أخوان يتعاطيان مهنة غير مشروعة: سرقة السيارات باستخدام العنف. هما يحاولان مقاومة سيطرة العائلة التي تدفعهما في طريق الجريمة فيكون نصيب أحدهما زواج بالإكراه. ولكن لحسن الحظ (!) ها هو يقع على زوجة تقاربه في طموحاته، تغذيها أحلامها هي الأخرى بالتخلص من ثقل العائلة والهرب بعيداً. ... وتيار شاعريّ ثمة نوع آخر مقبل من بومباي أيضاً لكنه بعيد من بهرجة سينماها، ومن تبسيطها ومبالغاتها العاطفية، إنه تيار أكثر هدوءاً وشاعرية يمثله فيلم «لانش بوكس» أو «المطبقية» لريتش باترا والذي جذب في فرنسا وحدها نصف مليون مشاهد بقصة الحب الرومانسية بين شخصين لا يتلاقيان إلا عبر الرسائل. هذه بومباي لا تنفك تدهشنا بأفلامها... ولا يسعنا الإحاطة بكل إنتاجاتها، بومباي وحدها فماذا لو نظرنا إلى المقاطعات الهندية الأخرى؟!