مضى حوالى أسبوع على وفاة كميل أبو صوان، ولن يحظى زوار بيته الباريسي المطل على نهر السين بكرم ضيافته وثراء الحوار معه وفي حضوره. مثقف عاش في خدمة الثقافة اللبنانية من دون ادعاء، بل إن جهده المعروف وغير المعروف لم يحظ بتقدير كاف من السياسيين اللبنانيين، ذلك أن كميل أبو صوان حين ألمّ به مرض عابر في مطلع تسعينات القرن الماضي قرر بيع مكتبته قبل أن تتبعثر، المكتبة التي تعتبر الأهم من نوعها في الشرق العربي، وقد عرضها على الحكومة اللبنانية بثمن بخس عام 1992 حين كانت دولة لبنان الطائف في أول انطلاقتها فلم يلب المسؤولون عرضه، عندها أوكل بيعها إلى مؤسسة المزاد العالمية «سوذبيز» التي عرضتها في لندن في 18 حزيران (يونيو) 1993، وكانت الحصيلة ثلاثة أضعاف الثمن الذي طلبه أبو صوان من حكومة وطنه، بل إن لبنانيين اشتروا في المزاد وثائق بمبلغ يماثل ما طلب صاحب المكتبة ثمناً لها كلها. لكن كميل أبو صوان قبل المكتبة ومعها وبعدها مثقفٌ واسع الاطلاع والعلاقات، أصدر في أربعينات القرن الماضي مجلة تاريخية اجتماعية أدبية بالفرنسية في عنوان «دفاتر الشرق» وأسس فرع لبنان ل «نادي القلم الدولي» كما تقلد منصباً في الإدارة الدولية للنادي، ووضع كتابه «العمارة اللبنانية بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر» دارساً جمالياتها ومصادرها وخصوصيتها، بالفرنسية أيضاً، بعدما جال في أنحاء لبنان متعقباً وجوه عمارته والتقط بنفسه الصور التي ظهرت في الكتاب، وهو نقل «النبي» لجبران خليل جبران من الإنكليزية إلى الفرنسية وبلغت طبعاته عن دار «كاسترمان» إلى الآن 21 طبعة، ونظّم أثناء عمله المديد سفيراً للبنان في اليونيسكو معرض «لبنان والكتاب» وأصدر موجوداته في كتاب مرجعي. وتجد اسم كميل أبو صوان في إدارات جمعيات ثقافية لبنانية وأوروبية، كما تجد صورته في ألبومات كتّاب ومفكرين أجانب زاروا لبنان وحلوا ضيوفاً على أبو صوان فصاروا أصدقاء دائمين. إنها موهبة الانفتاح على الآخر التي جعلت من بيته الباريسي مضافة لنخب ثقافية وسياسية لبنانية وأوروبية. في الشهور الأخيرة فقدَ كميل أبو صوان البصر والسمع وفقد صلته بأصدقاء أحبوا حضوره، إلى أن أغمض عينيه للمرة الأخيرة. ولا يصح الحديث عن الرجل الذي تلقى تعليمه في عين طورة مع كمال جنبلاط وآخرين وعاش حياته بين لبنان وأوروبا التي استقر فيها بعدما استطاع «تهريب» مكتبته من منزل العائلة في الشوير إلى باريس، لكنه لم ينس وطنه في أي لحظة وكان خير مستشار لمن يتصل به من وجوه لبنان الكثر المثقفين والسياسيين. لا يصح الحديث من دون ذكر والده نجيب الحقوقي البارز الذي تخرّج في إسطنبول على حيدر باشا أشهر أساتذة الحقوق في أوروبا، وكان وصول نجيب أبو صوان إلى لبنان عندما انصاع لأمر جمال باشا بالنفي في عداد وطنيين لبنانيين مشارقة نفاهم القائد العثماني بعدما كان أعدم عدداً منهم في بيروت ودمشق. ولدى وصول نجيب إلى وادي البقاع ألمّ به مرض فسمحت له الإدارة العسكرية العثمانية بالاستقرار في لبنان شرط الامتناع عن النشاط السياسي، ومع شعور العثمانيين باقتراب الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، أرسل النائب العام العثماني في بيروت في طلب نجيب أبو صوان وسلمه ملفات المحاكم التي بلغ عددها 300 مع إيصال وقّعه الطرفان، ولا يزال محفوظاً. هكذا وجد نجيب أبو صوان نفسه وسيط التسلم والتسليم بين الفرنسي المنتصر والعثماني المنهزم، وتمت تسميته في القضاء اللبناني الوليد رئيساً أول لمحكمة التمييز. لم يكتب كميل أبو صوان مذكراته على رغم حياته الغنية، لكنه كان يروي أمام أصدقائه، ومن أبرزهم المفكر خليل رامز سركيس والوزير فؤاد بطرس، جوانب من حياة عائلته في القدس، المدينة التي أضافت إلى قداستها اجتماع وجوه عالمية أتوا لزيارة معالمها، وكان أجداد أبو صوان يتولون منصب «درغمان» أي رئيس التراجمة، ومنهم متيّا أبو صوان الذي تابع دراسته الجامعية في إسطنبول وأتقن التركية والإسبانية والفرنسية والإيطالية فضلاً عن العربية، وكان حين يترجم كتباً يمليها على مدونين من بينهم أمين الحسيني الذي صار في ما بعد الزعيم المشهور. مكتبة آل أبو صوان «الدراغمة» كانت موجودة في دارة لطفي عم كميل أبو صوان وفُقدت أثناء حرب فلسطين. هذا المصير ربما كان دافعاً لأن يحافظ كميل على مكتبته ويسلّمها لمن يعرفون قيمتها.