«لوحة الراهبة» هي الرواية التاسعة للروائي اللبناني قاسم قاسم (منشورات مكتبة بيسان) بعد ثماني روايات، تندرج ستٌ منها في إطار الخيال العلمي وواحدة في إطار الخيال الخرافي، ويبقى للذاكرة روايتان اثنتان فقط إحداهما موضوع هذه العجالة. عنوان الرواية المؤلف من كلمتين اثنتين تنتمي أولاهما الى الحقل المعجمي للفن والثانية الى الحقل المعجمي للدين يشكّل مفتاحاً مناسباً لولوج الرواية وقراءة أحداثها ورصد حركة الشخصيتين الرئيسيتين فيها بين حقلي الفن والدين، حيث تبحث كل منهما عن الذات والآخر في أحد هذين الحقلين دون طائل حتى إذا ما تحقق اللقاء بين الحقلين تكون بداية العثور على الذات والآخر. تقول الرواية حكاية حب في زمن الحرب بين تلميذين مراهقين جارين، هو يمارس الرسم ويقرأ الروايات ويطلّ يومياً من غرفته على شرفتها، وهي تتذوق الرسم وتقرأ الروايات وتنتظر اطلالاته اليومية. وتكون بينهما اشارات وحركات ولقاءات ولحظات وصل. غير أن اندلاع الحرب يضفي تعديلات أساسية على هذه اليوميات، فتتباعد مواعيد اللقاء، ويسيطر القلق والخوف، وتتوقف الدراسة، ويبدأ التفكير بمغادرة الحي الى أماكن آمنة. في مواجهة هذه الوقائع، كان البطل يلوذ بالرسم يواجه به العالم الخارجي والحرب. وكانت هي تلوذ به حتى إذا ما فرض عليها الأهل خيار مغادرة المكان ولم يكن هو جاهزاً لتحمّل مسؤولية الحب تتخذ قراراً بالاختفاء. تأتي واقعة الاختفاء التي لم ترهص بها الوقائع السابقة لتشكل نقطة تحوّل مفصلية في مسار الأحداث سواء على مستوى الحكاية أو الخطاب، فقبل هذه الواقعة كانت الأحداث تتبع مساراً شبه أفقي، تتكرر فيه المشاهد وتتراكم من دون تحقيق نموِّ نوعيِّ حتى إذا ما حصل الاختفاء يضفي على المسار بعداً تصعيدياً/ درامياً، ويغدو البحث عن الجارة المختفية هاجس الحبيب والأهل. وحين يتناهى الى علمهم أنها انتسبت الى سلك الرهبنة يأتي المعرض التشكيلي لوجوه الراهبات الذي أقامه الرسام في صالون الكنيسة ليمثل اللقاء بين الفن والدين ويشكّل نقطة تحوّل أخرى تقود الى العثور على الجارة/ الراهبة المختفية وما تلا ذلك من تركها سلك الرهبنة، ومرضها، وشفائها بعجيبة الهية، واستئناف الحب بين الحبيبين. العلاقة بين هذه الوقائع في الرواية تتراوح بين العلاقة الطبيعية/ السببية التي تندرج في أفق المتوقّع، وبين العلاقة المتحولة حيث تطرأ على المسار وقائع جديدة مفاجئة تعدّل فيه وتندرج في أفق غير المتوقع، ويكون لها ما بعدها، وتدخل في هذا الإطار وقائع الاختفاء، وظهور السيدة العذراء على الجارة المريضة، وشفائها المفاجئ من المرض بعد أن كانت الأحداث توحي بمشارفتها الموت. وهنا، تقتضي الإشارة الى أن قاسم يتقن فن المباغتة في الرواية ما يعزّز البعد الدرامي فيها، ويعرف كيف يقيم علاقات توازٍ أو تجاور أو تكامل بين المشاهد الروائية، فيزامن بين وقف النار النهائي وازالة الحجارة عن الجدارية التي شاء أن يتحدى بها الحرب أو يكمل بين عودة الجارة الى حياتها الطبيعية ومتابعته حياته الفنية في التفاتة الى أن السلام والاستقرار شرطان للحياة والفن، على سبيل المثال. في المقابل، ثمة مشاهد أو وقائع تتكرر في الرواية في شكل تراكمي من دون أن يتحول هذا التراكم الى قيمة نوعية مضافة كمشاهد: اللقاءات الدورية، القبلة على الخد، العناق، البكاء في حضرة اللوحة، ولقاءات شلة الرفاق... على أن علاقة الحب هذه وما رافقها من مبالغات عاطفية وبكاء وغياب عن الوعي وفراق ومرض وحب وتوحّد ومشارفة الموت ووصف الطبيعة تحيل جميعها الى أجواء رومنطيقية عرفتها الرواية العربية في مرحلة مبكرة من تطورها لا سيما مع محمد عبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي وسواهما، وتجاوزتها التجارب الروائية الحديثة والاتجاهات الجديدة في الرواية. ناهيك بأن مثابرة الكاتب على اطلاق كلمة «الجارة» على الشريكة في علاقة الحب على لسان الراوي/ الحبيب/ الشريك الآخر في العلاقة لا تستقيم مع بلوغ هذه العلاقة مرحلة متقدمة حين تصبح الجارة حبيبة إذ ثمة فرق كبير بين الكلمتين. الى ذلك، قدّم قاسم قاسم نصاً روائياً متماسكاً، وأيقظ الحنين الى قراءات سابقة رومنطيقية عرفناها في مرحلة معينة من العمر فأضاف الى متعة السرد متعة التذكر.