على رغم كل ما جرى في نهر الحياة العربية، منذ نكبة فلسطين عام 1948، لا يزال الموقف من إسرائيل هو الرائز الأساس في وصف الوطنية، لم تغيّر في ذلك جوهرياً أيّ تبدلات وتحولات عاصفة شهدتها المنطقة، سواء على مستوى الأنظمة والحكومات، أم على مستوى الشعوب وقواها السياسية والمدنية. كأنما هو رائز متعال، ومعيار للوطنية، يستطيع التجدّد في كل وقت وحين، حتى لو أخذ صيغاً وأشكالاً مختلفة، بدءاً من الموقف إزاء إسرائيل وقيامها ووجودها واستمراريتها، من حيث المبدأ، والموقف تجاه فلسطين، أو الثورة وفصائلها، ومن ثم المنظمة والسلطة، من حيث الممارسة، وليس انتهاءً بأسئلة التطبيع والتعايش، التي رُفعت خلال مسيرة هذه القضية التي لا تنفك تحتل مكان القضية المركزية، ولو قولاً. من هنا سيبدو برنامج «الحكم بعد المزاولة» محاولة لتفحّص هذه «الوطنية»، من خلال إيقاع ضيوف البرنامج في مغبّة اكتشاف وجودهم في ضيافة فريق تلفزيوني إسرائيلي، يجري حواراً لمصلحة قناة إسرائيلية، بالتالي رصد ردود فعل هؤلاء الضيوف، وهم نخبة مختارة من فنانين وإعلاميين وسياسيين ومفكرين. تقوم فكرة البرنامج ببساطة، على سؤال لا لُبس فيه: ماذا لو وجدتَ نفسك فجأة في حضرة إسرائيليين، وعلى شاشة إسرائيلية، وقد مضى بك وقت ليس وجيزاً وأنت تتحاور مع مذيعة تتكشّف هويتها عمّا قليل بأنها مذيعة إسرائيلية، ومع فريق إعداد وتصوير إسرائيلي، وفي مكان مُغلق؟ سؤال لم يعد مستحيلاً، كما كان قبل عقود، في أيّ عاصمة عربية، بخاصة في القاهرة، حيث يتمّ تصوير البرنامج! لن ينفع هنا سؤال بعض الضيوف: «إنتو إزاي بتصوّروا هنا؟»، فاتفاقات السلام؛ كامب ديفيد وشقيقاتها، جعلت الطريق سالكاً لمن شاء المرور ما بين هنا وهناك. حلقات البرنامج، كشفت عن أنواع وأشكال مختلفة من ردود الفعل، بما فيها ذاك الذي يمكن أن يكون مفاجئاً ومثيراً، بدءاً من الرفض الهادئ والحازم، وصولاً إلى الصراخ والشتائم، ولن نعدم وجود الهيجان الذي لن يمنع صاحبه من استخدام العنف؛ ولطم المذيعة بقوة، والاشتباك مع المُعدّ وطرحه أرضاً، وركل الكراسي، ومحاولة تحطيم الكاميرات! بعضهم، وقد أدرك أن الواقعة وقعت، وأنه كان على الهواء مباشرة، أراد توجيه رسالة تبرئة ذمته من خطيئة الظهور على شاشة إسرائيلية، بالقول إن الأمر كان خدعة، وأنه أصلاً ما كان يعلم أنه هنا، على هذه الشاشة! آخرون نفروا وانسحبوا بصخب. ومنهم من هدّد باللجوء إلى القضاء، واتخاذ الاجراءات اللازمة ضد هذه الوقيعة. باعتماده أسلوب الكاميرا الخفية، سمح برنامج «الحكم بعد المزاولة» بالكشف عن خبايا النفوس، ومقدار توافق القول والفعل، وتناسب الصورة العامة المأخوذة عن هذه الشخصية أو تلك، وحقيقة مواقفها وممارساتها، إلى درجة تكاد تأخذ معنى الحكم الأخلاقي... فهل فكرة فحص الوطنية، بهذا المعنى، أخلاقية أصلاً؟