يقول بول ريكور: «الشعر تناط به حيازة أبعاد اللغة والحفاظ على عمقها واتساعها ورحباتها. ذلك أن الخطر الأول المحدق بثقافتنا الحالية يكمن في قصر اللغة على التواصل في أدنى مستوياته أو مجرد تعيين الأشياء والأشخاص، وهنا تصبح اللغة أداتية فقط». ولعل هذا ما فعل أو حاول فعله الشاعر عبدالرحمن الموكلي في ديوانه «لا حد لي»، أي إبعاد اللغة عن كونها أداة للتواصل والسمو بها نحو أبعاد أشمل، نحو جمالياتها المعبأة بالدلالات وشحنات الاحتمالات، كنت قلت في قراءة سابقة عن شعر الموكلي: «عندما جاء عبدالرحمن الموكلي إلى سدرة الشعر، جاء وحده. جاء وله لغته وذائقته وثقافته ووعيه الخاص». وشعرية الموكلي خاصة به، لا يشبهه فيها أحد. يلامس بك (مواقف) النفري ومخاطباته أحياناً، ووجد ولوعة شعراء الصوفية أحياناً أخرى، مازجاً، وبمقادير خفية إلا عليه، التراث الجازاني مع نهج الشعر. وفي ديوان «لا حد لي» يترسخ لي هذا اليقين من خلال النصوص القصيرة والقصيرة جداً، المعبأة بشطحات الفنان الموغل باللغة، بعيداً عن (الأداتية) اليومية، تاركاً للمتلقي قراءة المعنى وما خلف المعنى. ولعل الملاحظة الأولى هي أن القصائد حافلة بالماء والعشب والندى، ولكن الماء هنا ليس هو الماء ولا العشب هو العشب، لكأني أتتبع خطى ابن الفارض أو النفري، وشياطين الشعر المتفلتة من أسر اللغة نحو تخوم المجاز. الموكلي يقول في نص أحب: «أحب الذنوب المنداة بالماء/... ماء الكلام ملتحفاً بالسماء/ ماء النساء طافباً على العشب/ تصبايح ماء العنب». وفي نص «أحلى» يقول: «في حنايا الغلس/ تحلو مراوحة الماء للماء/ وتصابي كلامك/ يكهرب هذا العماء». والماء والندى في الديوان كثير والمساحة هنا أصغر من تتبعها كقصائد «يا سميي» و«يحيى» و«فيان». الأمكنة أيضاً عند الموكلي هي فضاءات وليست أماكن. فضاءات تتسع لما هو أبعد من حيز المساحات، هي تجلٍ يأخذنا لما هو أشمل. لشتات الأرواح التي تغدو لها كل الجهات مسارات. لنقرأ في واحدة من أجمل قصائد الديوان، «كأنه أنت»، إذ يقول: «لما وقفنا في عرفات الله، محرمين والشمس غاربة/ والناس محشورين/ كأن القيامة قامت/ قلت كفي بكفك: روحنا قبل حلول الظلام/ إلى أن يقول: كأنه أنت؟.../ في منزل الذكريات/ تغازل جنوبا/ لما راعي الهوى يغازل شام». فالشاعر هنا خرج بنا من الموقف كساحة وقوف لمشعر إيماني، نحو أفق أوسع أفق تغادر محدودية اللغة والجهات أيضاً، إذ يغدو الهوى هو البوصلة. فلا تسألني عن بلاغة يوم القيامة/ سأفتح بسطات القلب على مفارق المدن/ وأنزع غرائزي من أكمامها/ كل يوم ساختار لهجة/ يكفيني خفة أمرأة في منعطفات الكلام/ حتى إذا أويت وحيداً إلى فراشي/ سأنام ملْ عيون الموت/ حالماً بيوم القيامة». وكعادة الموكلي في تجارب شعرية سابقة، تكون المفردة الجنوبية دائماً حاضرة. لا بوصفها مفردة شعبية. ولكن بوصفها مفردة تحمل دلالة لا يستقيم المعنى من دونها. وهي أيضاً تغني عن الكثير من الكلام. لنقرأ «قالت فيَان تغدو تروح»، مفردة (فيَان) هنا تختلف عن مفرد إلى إين، إذ تحمل دلالتي المكان والزمان. «تهزني - يا غارة الله - أو أفنى». ومفردة يا غارة الله يصعب شرحها وتفسيرها، من دون فضائها الأسطوري المكاني أيضاً. كذلك نص قصيدته بعنوان «في الكتاب»: «كلما خط خطاً/ قلت أنا عائم/ يا ليت تسبقني». ومفردة «عائم» تعني هنا من فقد معرفة الجهات. وليس بمعنى الطفو. والأمثلة كثيرة على تفرد الموكلي بهذه الخاصية، التي لا يشبهه فيها أحد. وحده اخترعها، عازفاً عن أن يحضر أو لا يحضر في ذهن القارئ العادي. كلما أستقر بك المضنى/ ملٍ على محرابه/ عزّمن جلله الشعر/ عز مسكونا بتقواه/ من فتوح الغيب حتى مطلع النجوى». ديوان «لا حد لي» الصادرة عن دار جداول في 66 صفحة، ديوان جدير بقراءة أوسع. قراءة تعيد للغة بكارتها وتعيد الشعر للشعر كحال تشظ، قبل أن يكون بوحاً مبتذل الكلام. وأنا لا حدَ لي في سمائك/ سوى لطف مضائك/ لطفا كساني». هكذا يختتم الموكلي ديوانه المتفرد. كما هو وحده متفرد في القصيدة. * قاص وكاتب سعودي.