غزوة نسائية كبيرة تشهدها السينما العربية في الدورة التاسعة من مهرجان دبي السينمائي الدولي الذي يختتم عروضه الأحد، إن لناحية الحضور النسائي البارز في إخراج الأفلام، او لناحية المضامين التي تلامس في جزء كبير منها دور المرأة العربية في مجتمعاتها... والعزلة التي تعيشها داخل أربعة جدران، سواء كانت جدران اسمنت حقيقية، أو جدرانا نفسية بنتها عادات وتقاليد وطبيعة النفس البشرية. غزوة، تُرجمت بقوة في الفيلم السعودي «وجدة» شكلاً ومضموناً. ففي الشكل يحمل الفيلم توقيع المخرجة السعودية الشابة هيفاء المنصور التي أدرجتها مجلة «فارايتي» الأميركية كإحدى أهم الشخصيات النسائية الإبداعية في تقريرها عن أكثر النساء تأثيراً في الصناعة السينمائية على مستوى العالم لعام 2012. وفي المضمون يصوّر الفيلم المرأة في المجتمع السعودي بعين سينمائية ناقدة، من دون تصفية حسابات او ادعاءات. «وجدة» الذي استُقبل بحفاوة شديدة في المهرجان الإماراتي بعد عرضه العالمي الأول في مهرجان البندقية، عرفت مخرجته كيف تدنو بنجاح من مواضيع شائكة في مجتمعها، بالاتكاء على قصة بسيطة، بطلتها طفلة في العاشرة من عمرها (يحمل الفيلم اسمها) تحلم باقتناء دراجة هوائية... ولكن في مجتمع محافظ مثل ذاك الذي تعيش فيه «وجدة»، يبدو حلم كهذا بعيد المنال... ومع هذا لا شيء سيقف في طريق بطلتنا للوصول الى مبتغاها. أو، هذا ما يبدو عليه الأمر، حين تبدأ الطفلة المشاكسة بحثها عن سبل للوصول الى ثمن الدراجة، فتتدرج من بيع أساور تحمل ألوان فرق كرة القدم الأبرز في السعودية لزميلاتها في المدرسة الى لعب دور مرسال الحب بين عاشقين، فابتزاز ابن الجيران الذي لا يجد إلا المال ليفاوضها به لتمسح دموعها... وصولاً الى المشاركة في مسابقة دينية، ليس فقط عن حب بالإيمان ولكن بخاصة انطلاقاً من رغبة بالحصول على جائزة مالية. وفي كل محطة، تقود هيفاء المنصور مشاهدها الى داخل مجتمعها المحافظ، من مدرسة الفتيات حيث تربية البنات الصارمة، الى البيت حيث تعيش الوالدة الجميلة (الممثلة السعودية ريم عبدالله) بخوف كبير من أن يتزوج زوجها بأخرى كونها لم تنجب له ابناً... وفي كل رحلة يطرح الفيلم أسئلة كبيرة عن المرأة وأحلامها من دون ان يدين أحداً. وهكذا من خلال أكثر القصص بساطة، استطاعت المنصور ان تنسج خيوطاً مجتمعية كبيرة من دون أن تقع في فخ الخطاب المباشر والجدل العقيم. هي هنا، تقدم قصة إنسانية ذات خصوصية انطلاقاً من خصوصية المجتمع حيث مسرح الأحداث، وبالتالي تطرح نظرة سينمائية لا مكان فيها لأية تصفية حسابات بل نظرة من الداخل ملؤها الحب الى مجتمع تعرفه جيداً. وكما نسجت المنصور خيوط مجتمعها بعناية بعيداً من الاستفزاز، كذلك صوّرت الرجل بعيداً من الصور النمطية المعهودة. «فالنساء والرجال في هذا الفيلم - كما تقول - في المركب ذاته يتعرضون لضغوط اجتماعية، ويتصرفون بناء عليها». هيفاء المنصور التي اضطرت الى توجيه ممثليها من طريق اللاسلكي من داخل سيارات الإنتاج في بعض المناطق المحافظة حيث يرفض المجتمع هناك فكرة الاختلاط المهني بين الجنسين، لا تقدم فيلماً تصادمياً كما لا تطرح نفسها مصلحة اجتماعية. كل ما في الامر انها امتشقت كاميراتها لتصوير حكاية من واقع عايشته في طفولتها من دون أن تعيشه بنفسها، موثّقة من خلال الدراما تجربة نساء كثيرات أحلامهن صغيرة وعزلتهن كبيرة. وقد وفقت في اختيار بطلة الفيلم (الطفلة السعودية وعد محمد) التي استطاعت بعفويتها وأدائها التلقائي ان تأسر المشاهد، وتجعله يتعاطف معها الى أبعد حدود... كما وفقّت في رسم عالم نسائي كل شيء فيه يهجس بسطوة الرجال، حتى وإن كانت مشاهد الذكور قليلة. أمام هذا كله، لا يعود غريباً ان يصبح فيلم «وجدة» أول فيلم سعودي يوزّع في الولاياتالمتحدة التي لا تزال سوقها عصيّة على كثير من الأفلام العربية... ولا شك في أن في هذا اعترافاً بموهبة سعودية بارزة سيُحسب لها ألف حساب عند الحديث عن مستقبل السينما العربية. رقابة عهد مبارك موهبة نسائية أخرى من شأنها ان تكون عنصراً بارزاً في السينما العربية الجديدة، قدّمها هذه المرة مهرجان دبي من مصر، هي نادين خان ابنة المخرج الكبير محمد خان التي عرضت فيلمها الروائي الطويل الاول «هرج ومرج» بعدما عملت كمساعدة مخرج مع عدد من المخرجين المكرّسين، مثل يسري نصرالله في «باب الشمس» و «جنينة الأسماك» ومحمد خان في «بنات وسط البلد». واللافت ان «هرج ومرج» الذي ظل لفترة طويلة معلقاً بعدما رفضته الرقابة على المصنفات الفنية في مصر قبل ثورة «25 يناير»، خيّب آمال الذين قصدوه وفي ذهنهم شريط سينمائي يوجه النقد اللاذع الى عهد مبارك... ففي هذا الفيلم لا نقد سياسياً مباشراً أو كلاماً عن فساد رجال شرطة او المحسوبيات. كل ما في الأمر اننا أمام قرية ريفية تعيش في عزلة منقطعة النظير ولا تربطها بالعالم الخارجي إلا عربة تأتي محمّلة باحتياجات السكان الأساسية، من مشرب ومأكل وقوارير غاز... بيئة استنبطتها المخرجة من أحد المخيمات الفلسطينية في لبنان أثناء مشاركتها في تصوير فيلم «باب الشمس»، فأسقطتها على قرية ريفية مصرية، تناستها يد الدولة، ما فتح الباب واسعاً أمام سطوة الفتوّات. «ففي حارتنا إما أن يكون الرجل فتوّة وإما أن يُعدّ قفاه للصفع (...) ومن عجب أن أهل حارتنا يضحكون! علام يضحكون؟ إنهم يهتفون للمنتصر أياً كان المنتصر، ويهللون للقوي أياً كان القوي»... انه وصف يرد في رواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا»، يبدو أنه ألهم نادين خان، وهي ترسم بعض شخصيات فيلمها، خصوصاً لناحية نفوذ «الفتوّات» الذي شدّدت عليه في أكثر من مشهد، مثل مشاهد الطوابير الطويلة التي تتجاوزها، مثلاً، من دون اي اعتراض، ابنة «الحاج سيد»، كبير الحارة، في كل مرة تصل عربة المؤن الى الساحة... ففي هذا المجتمع، يحظى الأقوى بامتيازات ترفعه أشواطاً عن إخوته في الطبقة المسحوقة. وعلى هذا المنوال، تدور الأحداث على مدار سبعة أيام، مُستَهَلّة بجنازة لا نعرف صاحبها فجر الاثنين لتعود وتنتهي في اليوم ذاته وقد عرفنا هوية الفقيد بعد مباراة تنافسية في كرة القدم بين «منير» و «زكي» للفوز بقلب ابنة «الحاج سيد»، وتصفيق اهل الحارة للمنتصر، أياً كان المنتصر، سواء كان «الطيب» أو «الشرير». أمام هذا المشهد، يبدو قرار الرقابة محيّراً، بما ان الشريط، لا يتضمن ما يُفترض أن يزعج عهد مبارك. كذلك الأمر بالنسبة الى جواب نادين التي اعتبرت أن السبب قد يكون كامناً في تصوير الفيلم بلدة من دون ماء او غاز. طبعاً سبب مثل هذا، ما كان ليثير حفيظة الرقابة، خصوصاً أن أفلاماً مصرية كثيرة تضمنت ما هو أكثر من ذلك ومرّت امام مقص الرقيب بسلام. لكنّ من قرأ السيناريو رأى فيه ما لم تجسده كاميرا نادين خان، ولعل هنا بيت القصيد الذي يفسّر الموقف من الفيلم قبل الثورة. أياً يكن الامر، وسواء قدمت نادين خان تنازلات شخصية أو ارتأت أن يبتعد فيلمها عن أي استفزاز، خصوصاً في ما يتعلق بالاستفزاز اللفظي الذي قيل ان جرعته كانت مكثفة جداً في السيناريو خلافاً للفيلم، فمما لا شك فيه أنها نجحت في خلق عالم «سحري» لفئة العشوائيات، مختلف عن السائد في السينما المصرية... والأهم أنها نجحت في السيطرة على مجاميع كبيرة (استعانت بأكثر من 500 شخص) واستخراج جماليات من عمق القسوة القاتمة مهما كان رأينا في القصة وتناولها بسطحية. حرب الجزائر قسوة من نوع آخر، تقدّمها المخرجة الجزائرية جميلة الصحراوي في فيلم «يمّا» الذي عرضته على جمهور مهرجان البندقية في دورته الأخيرة، ونالت عنه جائزة أفضل ممثلة في مهرجان نامور البلجيكي، قبل ان تصل به الى «دبيّ». فيلم مقلّ في الكلام عابق بالأحاسيس والجماليات التصويرية من خلال قصة أم ممزقة بين ولدين: أحدهما ضابط في الشرطة والثاني قائد جماعة من المسلحين الإرهابيين. الأول قُتل. والثاني متهم وجماعته بقتله. حقائق نكتشفها في شكل تصاعدي على طول الشريط الذي يفتتح مع «وردية» وهي تجرجر جثة ابنها، لتدفنها وحدها الى جانب بيتها في أحد الجبال الجزائرية، من دون ان تغيب عنها عينا رجل بذراع واحدة، يراقبها ويرعى الماعز. قصة تجعل الحرب في الجزائر والانقسام داخل البيت الواحد، الإطار العام للأحداث من دون ان تدخلنا في دوامة الصراع الذي استنزفته السينما الجزائرية. من هنا أهمية الفيلم في تركيزه على الإنسان في محنته، لا على الحرب كهدف اساس، وقد أجادت جميلة الصحراوي في لعب دور السيدة الستينية التي يكاد ان يختزل وجهها كل قسوة العالم. فكيف تسامح أم ابنها على ما اقترفته يداه في حق شقيقه؟ وهل لها ان تصدق اصراره على عدم تورطه في هذه الجريمة؟ ثم، هل يمكن ان يلين قلبها بعد إصابة ولدها في إحدى المعارك مع الشرطة مهما كان إثمه كبيراً؟ وهل يكون موته عزاءها وإن قاست الامرّين؟ أسئلة كثيرة مفتوحة على التراجيديا الإغريقية التي بدت صحراوي متأثرة بها في شكل واضح في هذه القصة... من دون ان تفقد روايتها بوصلتها الجزائرية. ومع هذا، فإن الأحداث، ليست جزائرية خالصة، بل يمكن أن تحدث في أي مكان وزمان، طالما ان الإنسان هو البطل هنا لا سنوات المحنة في الجزائر، وتصرفاته هي الأساس. فيلم يتوغل بعمق داخل النفس البشرية ليستخرج منها قباحة ما بعدها قباحة، مركزاً على العصبيات التي تحوّلنا الى كائنات منعزلة لا تعرف الرحمة. ولا يقف حضور المرأة العربية في مهرجان دبي عند هذه الأفلام الثلاثة المشاركة في مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة (تشارك فيها أيضاً المخرجة العراقية ليلى البياتي التي لم تقيّض لنا مشاهدة فيلمها حتى كتابة هذه السطور)، بل يمتد الى السينما الوثائقية والليالي العربية اللتين تميزت فيهما أسماء تحمل تواقيع أنثوية مثل خديجة السلامي ولارا سابا وإليان الراهب وسواهن من المخرجات اللواتي يحاولنّ وضع أساسات متينة في سينما الغد، بما يحملنه من جرأة في الطرح ولغة سينمائية مميزة. ولعل أحدث هذه النجاحات منح المخرجة العراقية ميسون الباجه جي خلال المهرجان جائزة IWC للمخرجين في منطقة الخليج، متفوقة بذلك على ثلاثة مخرجين شبان (البحريني محمد راشد بوعلي، والإماراتيين عبدالله الكعبي وعلي مصطفى)، ما يشي أيضاً وأيضاً بمساهمة نسائية واعدة ستسطر أعمالها مستقبل السينما العربية.