حتى وإن كان من الممكن القول إن «الحرب» اندلعت فعلاً بين روما والبندقية، فإن لا شيء في اليومين الأولين لبدء المهرجان البندقي عروضَ دورته الجديدة، يفيد بأن على حضور هذا المهرجان الإيطالي العريق ان يشعروا بوجود تلك الحرب التي تضعه في مجابهة من نوع جديد مع المهرجان السينمائي الذي سوف تقام دورته الجديدة في العاصمة الإيطالية بعد اسابيع قليلة... ومع هذا، فالحرب موجودة، ولعل من أبرز علاماتها انتقال المبرمج الشهير ماركو مولّر من مسؤولية مهرجان مدينة الدوقات العريق الى مسؤوليات المهرجان الروماني، فيما عاد سيّد البندقية السابق ألبرتو باربيرا اليها، بعدما كان ترك المكان لمولّر خلال الأعوام القليلة الماضية. مهما يكن من الأمر، لا بد من انتظار انعقاد مهرجان روما في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل قبل الحكم على ايِّ المهرجانين انتصر على الآخر، مسجلين فقط أن مهرجان روما يتباهى منذ الآن بحصوله على ما لا يقل عن ستين فيلماً عالمياً في عروضها الأولى. وهو على أي حال تباهٍ يجيب عليه أنصار «البندقية» بتعداد أفلام يعتبرون مهرجانهم «انتزعها» من مهرجان «كان» نفسه، ومنها جديد تيرنس ماليك وبول توماس أندرسون وبريان دي بالما وأوليفييه السايس (راجع حول هذه الأفلام مكاناً آخر في هذه الصفحة)... غير ان هذه الأفلام ليست طبعاً كل ما يمكن مهرجان البندقية ان يزهو به، فالحال ان «البندقية»، على عادته، يحفل بالكثير من جديد الإنتاج العالمي، اضافة الى تظاهرات ومناسبات وتكريمات أخرى يبدو فيها متفرداً، ناهيك بأنه في ما يخصنا، نحن العربَ، ويخصّ سينمانا، استطاع ان ينتزع من المهرجانات العربية المقبلة (القاهرة، دبيّ، ابو ظبي، الدوحة...) عروضاً كان يمكنها ان تتباهى بها، وهي عروض تبدو منذ الآن لافتةً، على قلتها... كما سنرى. ولأن افلام المسابقة الرسمية تفرض نفسها، باعتبارها عروضَ التظاهرة الأكثر اهمية، نبدأ هنا بها، حيث يتضمن البرنامج الأساسي عدداً لا بأس به من الأفلام الجديدة، والتي يمكن القول إن معظمها كان منتظراً بشغف، إذ يحمل تواقيع بعض كبار سينمائيي اللحظة الراهنة في شتى البلدان والقارات... ولئن كانت الأفلام الأربعة التي نتحدث عنها في مكان آخر من هذه الصفحة، تُعتبر الأبرز من ناحية مكانة أصحابها، فإن في وسعنا ان نضيف اليها وفي السياق التقييمي نفسه، أفلاماً من آسيا، مثل «بييتا» للكوري كيل-دوك كيم، و «ما وراء الهيجان»، الذي يبدو ان الياباني تاكيشي كيتانو يستكمل فيه حروب العصابات الدامية التي كان بدأها في فيلمه السابق «هيجان» المعروض قبل عامين في «كان»... ومن الفيليبين يعود بريانتي مندوزا، بعد سنوات من «خدمات»، بفيلم جديد عنوانه «سينابوبونان». من العالم كله ولئن غابت السينمات العربية -كالعادة- عن هذه التظاهرة، لتظهر بقوة نسبية في التظاهرة الثانية «اوريزنتي» (آفاق)، فإن إسرائيل حاضرة من خلال فيلم عنوانه «ملء الفراغ»... أما فرنسا، فتحضر بكثافة استثنائية نسبياً، ولكن مواربة، إذ الى جانب فيلم أوليفييه السايس «بعد شهر أيار»، تتمثل جارة إيطاليا الأقرب بما لا يقل عن ثلاثة افلام تدخل في انتاجها لكنها تحمل تواقيع مخرجين من بلدان اخرى: «الحسناء النائمة» للإيطالي المخضرم ماركو بيلوكيو، وفيلم بريان دي بالما «شغف»، شراكةً مع المانيا، وفيلم «لينياس دي ويلنغتون» للبرتغالية/ الإيطالية فاليريا سيرمينتو... ويمكننا ان نضيف هنا أيضاً فيلم النمساوي اولريك سيدل «الفردوس-الإيمان»، المعتبر حلقة ثانية من فيلم بالعنوان الأول ذاته كان عُرض في «كان» الفائت. ومن الأفلام الأخرى المعروضة في المسابقة، الروسي «خيانة» لكيريل سيريبرينيكوف، والفيلمان الأميركيان «بأيّ ثمن» لرامين بحراني و«محطمو الربيع» لهارموني كورين... وكل هذا اضافة الى مشاركات بلجيكية وإيطالية وألمانية... والى جانب تظاهرة المسابقة الرسمية هناك إذاً، تظاهرات اخرى، منها «كلاسيكيات البندقية» (وفيها عروض لأفلام كانت حققت حضوراً في دورات سابقة للمهرجان، ومنها أعمال لإنغمار برغمان وعن اورسون ويلز وبيتر بروك)... وهناك أيضاً تظاهرة أفلام تُعرض خارج المسابقة الرسمية، واحياناً في احتفاليات خاصة، ومنها «الرجل الذي يضحك» لجان بيار آميريس و «انطون توت ريادون» للروسي ليوبوف آركوس و«الحب هو كل ما تحتاجه» للدانمركية سوزان بيار عن حكاية عاطفية لرسامة من الدانمرك، و «ابحثوا عن هورتانس» للفرنسي باسكال بونيتزر... اضافة الى عرض شديد الخصوصية لفيلم «كلاريسا» للإيطالية المخضرمة ليليانا كافاني، التي تحضر هنا وتكرَّم بعد غياب طويل لم يُنْسِ هواةَ السينما بعض روائعها، مثل «بواب الليل»... أما السينما العربية، فإنها تتمثل هنا بالفيلم التونسي «يا من عاش»، وهو عمل وثائقي للمخرجة الشابة هند بوجماعة. الحضور العربي منوّع والحال أن ذكر «يا من عاش» يقودنا مباشرة الى الحضور العربي، الذي سيبدو لافتاً في هذه الدورة من البندقية، ولا سيما في تظاهرة «اوريزنتي» التي تشارك السينمائية اللبنانية نادين لبكي في لجنة تحكيمها الخاصة، ففي هذه التظاهرة، هناك أفلام آتية من مناطق عديدة من العالم تتوزع على القارات الخمس وتحمل تواقيع يبدو معظمها جديداً ويخوض تجاربه الأولى، فيما نعرف ان البعض الآخر مخضرم او صاحب اسم ثابت في سينما اليوم (كيانوش اياري من ايران بفيلمه الجديد «بيت الأب»، او منغ تساي ليانغ من تايوان بالفيلم المنتظر القصير «دياموند سوترا»)... أما من الناحية العربية، فهناك طبعاً السينمائية السعودية هيفاء المنصور في روائيِّها الطويل الأول «وجدة»، والمصري المميّز ابراهيم البطوط في فيلمه الجديد «الشتا اللي فات»، من انتاج عمر واكد وتمثيله، وأخيراً الجزائرية جميلة صحراوي بفيلمها الجديد «يما»... ويمكننا ان نتصوّر منذ الآن مقدار السجالات التي ستكون هذه الأفلام موضوعَها بالنظر الى ان هيفاء منصور تقدم واحداً من اول الأفلام السعودية، بعدما كان مواطنُها عبد الله المحيسن سبقها قبل سنوات بالفيلم السعودي الروائي الطويل الأول والفريد حتى ظهور «وجدة»، وهو «ظلال الصمت»، بالإضافة الى كون المنصور امرأة سعودية، وهو امر سيتوقف عنده أهل المهرجان بوفرة، كما يمكننا ان نتوقع منذ الآن... اما فيلم البطوط، فإنه بالتأكيد سيفتح السجالات واسعة من حول الربيع العربي – المصري تحديداً – وعلاقة السينما به، خاصة ان منتجه وممثله عمر واكد لم يكفّ عن الإعلان عنه خلال حضوره دورتين متعاقبتين لمهرجان «كان»، بالإضافة الى ان سينما مخرجه إبراهيم البطوط كانت كوّنت لنفسها مكانة عالمية عبر فيلميه السابقين «عين شمس» و «الحاوي»، بعدما كان انطلق انطلاقة قوية بفيلمه الشاعري الأول «إيتاكا»... أما فيلم جميلة صحراوي، فإن من شأنه أيضاً ان يفتح نقاشات واسعة حول الإرهاب وحول أحوال الجزائر، من خلال حكاية فجائعية –حتى ولو كانت خطّية– عن أمٍّ في الريف الجزائري تدفن ابنها الدركي، الذي ثمة مؤشرات إلى أنه قتل بيد ابنها الآخر المتزعِّم تنظيماً إرهابياً. بهذه الأفلام، التي تبدو سجالية في شكل او في آخر، تحضر السينمات العربية الجديدة في مهرجان «البندقية» إذاً... لكنها إن استندنا الى بيان اصدره مهرجان دبيّ للمناسبة، لأنه «على شراكة مع المهرجان الإيطالي»، لن تكون كلّ شيء، حيث يقول البيان إن مهرجان دبيّ يعرض «عشرة أفلام عربية لمجموعة من المخرجين المبدعين من دولة الإمارات والمنطقة، خلال أنشطة سوق فينيسيا السينمائيّ...»، ويذكر البيان ضمن عروضه «المشاركة في البندقية بفيلم «وجدة» للمخرجة السعودية هيفاء المنصور، والفيلم الروائي «يما» للمخرجة الجزائرية جميلة الصحراوي، حيث تم تمويل الفيلمين من برنامج إنجاز التابع لمهرجان دبيّ السينمائي الدولي لدعم الأفلام قيد الإنجاز»، ويضيف البيان: «في هذه المناسبة، قالت شيفاني بانديا، المدير التنفيذي لمهرجان دبيّ: «يأتي تعاوننا مع مهرجان فينيسيا ضمن حرص مهرجان دبي على التشارك والتعاون المستمر». وأفاد البيان بأن قائمة الأفلام العربية التي ستعرض في سوق البندقية تضم الأفلام التالية: «عمو نشأت» للأردني أصيل منصور، و«يامو» للبناني رامي نيحاوي، و«القطاع صفر» للبناني نديم مشلاوي، و«الجمعة الأخيرة» للأردني يحيى العبد الله، و«عاشقة من الريف» للمغربية نرجس نجار، و«فرق سبع ساعات» للأردنية ديما عمر، و«الحوض الخامس» للبناني سيمون الهبر، و«حبيبي راسك خربان» للفلسطينية سوزان يوسف، و«شي غادي وشي جاي» للمغربي حكيم بلعباس، واخيراً «أمل» للإماراتية نجوم الغانم».