الحقيقة مؤكدة، تعززها الوقائع والأرقام: يعتبر لبنان منذ سنوات، واحداً من البلدان القليلة في العالم التي تزدهر فيها صالات السينما وتتكاثر وتزداد هذه الصالات أناقة ورفاهية بمقدار ما يزداد عدد روادها... وذلك على عكس الاتجاه العام في معظم أنحاء العالم، والذي يثير الحديث عنه ألف نكد ونكد لدى محبي السينما وهواة مشاهدة أفلامها في الصالات في صحبة الجمهور. وفي بيروت وحدها يبنى اليوم ما يزيد على دزينتين من الصالات الجديدة. بل إن ثمة، غير بعيد من بيروت، صالة استثنائية أُنشئت لنخبة النخبة لا تتسع لأكثر من دزينتين من المقاعد وتعرض افلاماً من نوع استثنائي جداً... كل هذا جميل وبات معروفاً الى درجة يمكن كثراً معها ان يتحدثوا عن لبنان، على صغر مساحته ومحدودية عدد سكانه، بوصفه «فردوساً سينمائياً» للموزعين وجمهور السينما. غير أن ثمة في المقابل أمراً في هذا المجال لا يمكن إغفاله، فحواه السؤال عما يعرض حقاً في هذه الصالات الأنيقة المتزايدة. والحقيقة ان من الصعب لهاوي السينما الحقيقي، أن يعثر في العروض الأسبوعية في الصالات على أفلام كثيرة يمكن ان ترضي هوايته السينمائية الحقيقية. اللهم إلا جديد الأفلام الأميركية وأحدث هزليات السينما المصرية. وطبعاً قد يجد المتفرج بين عروض الفئتين افلاماً جيدة، بل حتى افلاماً اميركية كبيرة وضخمة من النوع الذي يثير صخباً إعلامياً في العالم... غير ان هذا لا يمنع من التساؤل حول نصيب ما يسمّى بالسينما المستقلة الأميركية... إذ، على سبيل المثال، يندر لصالة في لبنان ان تعرض فيلماً سبق ان عرض في مهرجان «ساندانس» او فاز في تورنتو او اعتبر «فلتة شوط فنية» في هوليوود. هذا كله لا مكان له في الوفرة السينمائية/الصالاتية في لبنان. فإذا كانت هذه حال نوع متميز – فنياً – من السينما الأميركية، هل علينا حقاً ان نتساءل عن حصة عشرات السينمات العالمية الأخرى من قالب الجبنة اللبناني؟ سينما العالم الحقيقية ومع هذا، هناك في العالم سينمات تصنع خارج السياق الذي تفضّله الصالات اللبنانية ومتفرجوها. هناك سينمات آسيوية قد لا يكون ظلماً ان نقول ان علاقة هاوي السينما لا تكتمل مع الفن السابع إن لم يشاهد أفلامها في شكل متواصل. وهناك افلام ايرانية وتركية ومغربية تفرض حضورها في العالم كله من دون ان يعرف عنها الجمهور اللبناني سوى بالتواتر ومن طريق الكتابات الصحافية... وهناك ايضاً سينما في معظم بلدان اميركا اللاتينية تنتج احياناً روائع لا تخلو اسماء صانعيها من رنات عربية او لبنانية، ولا تخلو مواضيعها من شؤون تكاد تكون متطابقة مع همومنا... ولكن هناك، اكثر من هذا، سينما اوروبية متنوعة من المؤسي ان بعضها كانت له مكانة كبرى في خريطة العروض في لبنان إبان الأزمان السعيدة، لكنها سرعان ما اختفت تاركة الساحة لما هو مفرط في تجاريته، ما يعني ان المتفرج الجاد في هذا البلد لم يعد يعرف تماماً كيف حال السينما في بلدان عريقة – سينمائياً – مثل ايطاليا وألمانيا وبلجيكا، بل حتى فرنسا وبريطانيا... الخ. فهل نعني بهذا ان الصورة سوداء تماماً؟ لا بالتأكيد... لأن علينا هنا، ان نقول ان هذه الصورة الإجمالية، تشهد بعض التعديل منذ سنوات، وذلك بالتحديد، بفضل بعض المهرجانات وبخاصة بفضل بعض النشاطات التي تقوم بها، وسط الظروف التي نعرف، جمعيات ومؤسسات اخذت على عاتقها مهمة إحداث هذا التغيير، لعل من ابرزها وأكثرها نشاطاً جمعية «متروبوليس». فهل تراها نجحت في مسعاها؟ الى حد ما، أجل... وما عقد الدورة التاسعة عشرة، - التي افتتحت مساء أمس وتستمر حتى التاسع من كانون الأول (ديسمبر) - من مهرجان السينما الأوروبية في لبنان، سوى اشارة الى قدرة السينما ومحبيها الحقيقيين على «المقاومة». صحيح ان كل هذه الدورات لم تتمكن من فرض حضور تجاري للسينمات الأوروبية على مدار العام في بيروت وسواها، لكنها أمّنت لمحبي السينما الحقيقيين فرصة رائعة، ليس فقط لمشاهدة افلام آتية من بلدان اوروبية كثيرة، بل كذلك لرصد الحياة والمجتمعات وجديدها في تلك البلدان. ذلك أن تطور هذه المجتمعات هو واحد من المواضيع الأثيرة لهذه الأنواع من السينمات الأوروبية في افلامها الآتية من بلدان نكاد لا نعرف شيئاً عن الحياة والإنسان فيها. تنويعة مدهشة والحال انه إذا كان في الإمكان قول هذا عن معظم الدورات السابقة وأفلامها، فإنه يبدو هذا العام صارخاً اكثر مما في اي وقت مضى. فإذا كان القول السائد في ايامنا هذه يفيد بأن العالم يعيش لحظات انتقالية شديدة الحساسية والخطورة، بين ازمات اقتصادية عالمية ومحلية، وتبدلات في منظومات القيم وعلاقات القوى، وانعطافات حادة في سيرورة المجتمعات والروابط الإنسانية، وتساؤلات متشككة حول مفاهيم كانت تعتبر كالبديهيات، ها هي السينما، والسينما الأوروبية بخاصة تتنطح لطرح هذه الهموم والإشكاليات، بوصفها أداة التعبير الأكثر حساسية واستجابة في عالم اليوم. من قبرص (فيلم الافتتاح الذي عرض مساء امس «جريمة صغيرة» في حضور مخرجه كريستوس جورجيو)، الى فرنسا، التي تشارك بستة أفلام معظمها سبق أن اثار سجالات ونال نجاحاً، حتى في مهرجان «كان» (ومن ابرزها «صدأ وعظام» لجاك اوديار، و «كاميل تزدوج» لنوومي لفوفسكي، وطبعاً الفيلم الذي بات لا مفر منه في المهرجانات كما في أية عروض لأفلام فرنسية في مناسبات عربية: «عمر قتلني» لرشدي زم...) مروراً بثمانية عشر بلداً اوروبياً آخر (3 أفلام من المانيا، ثلاثة أخرى من الدنمارك، ومثلها من بريطانيا – من بينها تحفة كين لوتش الطريفة الجديدة «حصة الملائكة» الذي نال جائزة في «كان» الأخير، ودنو المبدعة اندريا رينولد من عوالم الأخوات برونتي في انتاج جديد ل «مرتفعات وذرنغ» -، مقابل فيلمين من كل من السويد والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا، وفيلم لسويسرا وآخر لصربيا ومثله لليونان وتشيكيا والنمسا ورومنيا وسلوفاكيا وفنلندا، فيما تبعث ايطاليا بفيلمين كبيرين سبق ان اثبتا حضورهما طوال الشهور الفائتة في العالم كله: «تلفزيون الواقع» لماتيو غاروني الذي قدم نوعاً من محضر ادانة شديدة الطرافة واللؤم للنوع التلفزيوني «المدمّر» الذي، في رأي الفيلم وصاحبه، لا يعيش إلا على بلاهة متفرجيه. و «قيصر يجب ان يموت» للمخضرمين ياولو وفيتوريو تافياني وهو فيلم ينطلق من تجربة تقديم مسرحية لشكسبير داخل سجن ومن قبل السجناء. فإذا اضفنا الى هذا بضعة افلام اخرى يصعب حصرها هنا... وبرنامجاً لسينما الطلاب اللبنانيين تتوّجه جوائز مهمة على تواضعها... واستضافة لفيلم جان ابشتين الشهير من ايام السينما الصامتة والمأخوذ عن قصة الأميركي إدغار آلن بو «سقوط منزل آل آشر»، يصبح لدينا برنامج سينمائي فعال ومتميز ينتظر متفرجين هواة إن احبوا ان يخرجوا ولو لأيام من الدروب الممهدة ليخوضوا ما يمكن اعتباره «مغامرة مشاهدة سينمائية» محمودة العواقب على اية حال. فإذا ارادوا ان يغوصوا في المغامرة اكثر فسيمكنهم ان يشاركوا في ندوة ولقاءات حول الإنتاج وكتابة السيناريو تقام على هامش هذه التظاهرة التي تتشارك في اقامتها، كالعادة البعثة الأوروبية في لبنان وعدد من الملحقيات والمعاهد الثقافية الأوروبية، تقابلها من الجهة اللبنانية جمعية وصالة «متروبوليس»، التي صارت خلال السنوات الأخيرة، العنوان الذي يعرفه ويقصده كل هاوٍ للسينما الحقيقية في هذا البلد. اما هذا الكلام، فلا يمكن إنهاؤه من دون ان نذكر ان العروض التي تقدم بدءاً من مساء امس في بيروت ستتجول بعد ذلك في ثلاث مدن لبنانية أخرى هي جونية وزحلة وطرابلس.