ليس فيه من الضخامة شيء، ولا فيه سجاد أحمر أو نجوم... ولا حتى يمكنه أن يوزّع المطبوعات، أو يقيم الحفلات الصاخبة. كل ما يمكنه أن يفعله هو أن يقدم أفلاماً... ومع هذا يمكن النظر اليه على أنه واحد من النشاطات السينمائية الأكثر أهمية وجمالاً في هذا الموسم، على الأقل في انتظار مهرجان مراكش، الذي، إن كان يتفوق عليه في الصخب والنجوم والسجاد الأحمر والبذخ، فإنه يماثله في نوعية ومستوى الأفلام التي يقدمها. ما نتحدث عنه هنا هو بالتحديد مهرجان السينما الأوروبية، الذي يقام هذه الأيام في بيروت، بعدما كانت القاهرة وعمان الأردنية شهدتا في الآونة الأخيرة ما يماثله. بكل تواضع إذاً، إنما بفعالية سينمائية لا نظير لها في أي مهرجان عربي آخر، افتتح مهرجان السينما الأوروبية في العاصمة اللبنانية مساء أمس الخميس، دورته السابعة عشرة. ولكن، لماذا نقول هنا، بفعالية، ولماذا تُرانا نحاول أن نميّز مهرجاناً متقشفاً، متواضعاً مثل هذا، عن بقية ما يحدث، سينمائياً في المدن العربية؟ الجواب بسيط: لأن ما هو أساسي في السينما، موجود في هذا المهرجان. وما هو اساسي هو، بالطبع، الأفلام... الأفلام كعروض وكاكتشاف في الوقت نفسه. والأفلام كمحور للاهتمام يجتذب ما يمكن اعتباره جمهوراً سينمائياً صافياً. يأتي هنا لحضور العروض ولاكتشاف أفلام يصعب - وحتى يستحيل - عليه مشاهدتها في أية مناسبات أخرى، ولا حتى عبر الاسطوانات المقرصنة. ذلك ان القسم الأعظم من العروض هنا، أفلام لا تغري المقرصنين ولا البائعين... ولا - طبعاً - المهرجانات الصاخبة. فهنا، في هذا المهرجان، إذ يقال «سينما أوروبية» فإن هذا يعني، تحديداً سينما آتية من بلدان أوروبية، شرقية وغربية يضطر التأزم الاقتصادي وغياب الأسواق والمنافسة الأميركية التجارية، سينمائييها الى الاستنكاف عن رفد أسواق الفيلم بأعمالهم، مكتفين بدلاً من هذا، برفد الفن السينمائي نفسه، بالقليل منها. وبهذا تعود السينما على أيديهم الى جوهرها الحقيقي: الى كونها فناً خالصاً. ويصبح كل فيلم يعرض، حدثاً فنياً إبداعياً، لا سينمائياً فقط. قد لا يكون هذا الواقع مريحاً لعشرات المبدعين الذين ينتظرون وينتظرون وقد يهلكون دون تحقيق حلم واحد من أحلامهم - تماماً كما هي حال المبدعين الشبان وغير الشبان من السينمائيين العرب الحقيقيين في هذه الأزمنة - لكنه الواقع، إن لم نستطع تغييره فلندعم ما هو موجود منه. وما هو موجود أفلام يمكن المراهنة، سلفاً، على معظمها، لا سيما على تلك الآتية من أوروبا الشرقية. إذ ان بلدان هذه المنطقة الأوروبية الفقيرة، اعتادت أن ترسل عاماً بعد عام أفلاماً قليلة لكنها تنتمي الى ما يمكن اعتباره سينما كبيرة. هي أفلام لا تنجح تجارياً، ولا تحقق أرباحاً، وربما لا يلتفت اليها حتى جمهور الخاصة، لكنها تعرف كيف تعيش وكيف تترك أثراً، وكيف - خصوصاً- تعيد فن السينما الى براءته الأولى. من هنا واستناداً الى تجارب باتت راسخة منذ سنوات يمكن منذ الآن إسداء النصح لمحبي السينما، فحين يقصدون حفلات هذا المهرجان المستمر حتى الخامس من كانون الأول المقبل، في صالات متروبوليس (صوفيل الأشرفية) - بيروت، ومن ثم في مدن لبنانية رئيسة مثل زحلة وطرابلس وصيدا، يمكنهم ان يقصدوا الأفلام - ولمرة نادرة في تاريخ العروض عندنا - استناداً الى اسم بلد المنشأ... طالما ان قلة من محبي السينما تعرف شيئاً أو أشياء عن أصحاب الأفلام أنفسهم... ويقيناً ان الخيبات لن تكون كثيرة مع أفلام آتية من النمسا أو تشيكيا أو بولندا أو فنلندا... أو حتى قبرص (أفلام مثل «فتاة صغيرة حزينة» لآليس نيلز، و «الحدود» للاوري تورهونن و «آكاماس» لبا نيكوس كريسانتو...) أو من بلغاريا... أو هنغاريا وغيرها. غير أن هذا لا يعني ان ليس ثمة في هذا المهرجان سوى أفلام «صغيرة كبيرة». فيه كذلك تحف سينمائية، هي، هذه المرة، من النوع المعروف والذي سبق أن ثبّت أقدامه في مسار الفن السينمائي. نقول هذا ونفكر طبعاً بأعمال كبيرة مثل «الرباط الأبيض» للنمسَوي ميكائيل هانيكي عن ولادة النازية ذهنياً في قرية ريفية ألمانيا («السعفة الذهبية» في دورة كان للعام الماضي)، ومثل «عن البشر والآلهة» للفرنسي كزافييه بوفوا، أحد أقوى وأجمل أفلام هذا العام («جائزة لجنة التحكيم الكبرى» في «كان» الماضي) عن حكاية رهبان سبعة قتلوا في الجزائر. قبل زمن. وإلى هذا، من الأفلام الراسخة أيضاً هناك «حياتنا» للإيطالي دانيال كوكيتي، الذي فاز بطله بجائزة أفضل ممثل في «كان» الى جانب خافيير بارديم. ثم لمن يحبون السياسة وتطربهم أفلام الإنكليزي كين لوتش، يمكن مشاهدة «آيريش» رود (على اسم الطريق المفضية من مطار بغداد الى قلب العاصمة العراقية)، وهو أحدث فيلم عن حرب العراق والتورط الغربي فيها... حتى وإن كانت أحداثه الكبرى تدور في انكلترا. أما الذين يحبون السينما الفرنسية الكلاسيكية ويحبون أن يحيّوا ذكرى المخرج الفرنسي الراحل حديثاً آلان كورنو، فإن في وسعهم ان يشاهدوا أخيره «جريمة حب» فيذكّرهم به، وربما أيضاً بزميله ومواطنه كلود شابرول الراحل قبل شهور بدوره تاركاً، كما كورنو، ارثاً طيباً للسينما البوليسية الفرنسية. ولئن كان لبنان، البلد المضيف للمهرجان يشارك، كالعادة، من خلال عروض طلاب معاهده السينمائية، متنافسين على بعض الجوائز، فإن السينمائيين اللبنانيين حاضرون كذلك، ممثلين بالمخرج يوسف فارس، الذي يعيش ويعمل في السويد، ويقدم باسمها فيلمه الجديد «مرجلة» الذي مكّنه من الفوز في مهرجان الدوحة الأخير بجائزة «أفضل مخرج عربي» (نالها وهو الذي بالكاد يتكلم العربية أو يعرف، أصلاً، أنه عربي!)... السويد وبلجيكا وهولندا وإيطاليا أسوة بفرنسا، تشارك جميعها في هذا المهرجان «ما يؤمّن نوعاً من نظرة بانورامية، الى سينما باتت مجهولة أكثر وأكثر، في العالم وعندنا، «بفضل» منظومة عروض لا تعرف سوى الأفلام التجارية... وهذا ما يعطي مهرجاناً من هذه الطينة قيمته الكبرى... وقيمته غير التجارية - وهذه بالنسبة الينا هنا، صفة جيدة! ومع هذا، نعرف ان فيلم الافتتاح «الشقة» الذي عرض مساء أمس في افتتاح المهرجان، كان منذ عرض عام 2009، من أنجح الأفلام البلجيكية من ناحية الإقبال الجماهيري، بحكايته الغامضة، التي استقطبت بقلبتها المسرحية في النهاية مئات ألوف المتفرجين. وفقط كي تقول ان صفة «جيدة» و «فنية» للسينما لا تستدعي بالضرورة صفة «الفشل» أو «الخيبة».