شنت إسرائيل عدواناً سافراً على غزة استخدمت فيه كل أساليب الهمجية والوحشية التي تتميز بها منذ اغتصابها فلسطين وتشريد شعبها. وكعادتها، في كل مرة تعتدي فيها على الفلسطينيين والعرب، لفقت إسرائيل ذريعة وهمية لتبرير عدوانها، وهو وقف الصواريخ التي تطلقها حركة المقاومة الإسلامية «حماس» وفصائل المقاومة الأخرى من غزة على المدن والمستوطنات الإسرائيلية بصورة متقطعة منذ أشهر على رغم التهدئة المتفق عليها. أراد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو من عملية «عمود السحاب» على غزة، التي حبك أسبابها وذرائعها بخبث ومهارة جعلاه يحظى بدعم الغرب كون بلده مستباحاً من إرهاب «حماس»، استغلالها في الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في 22 كانون الثاني (يناير) 2013. فأراد بتصرفه الوحشي والهمجي استنهاض الرأي العام الإسرائيلي والإيحاء له بأنه يريد استعادة أمجاد إسرائيل الدولة التي لا تُهزم أو تُقهر، وبأنه القائد الصلب المدافع عن أمن إسرائيل واستقرارها، من أجل كسب تأييد الناخب الإسرائيلي، وتعزيز مواقعه في السلطة على حساب حلفائه الحاليين. وأدت الحرب على غزة إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى، معظمهم من المدنيين، وخصوصاً الأطفال، إذ لم تتورع القيادات الصهيونية المجرمة عن قصف أحياء مدنية وارتكاب مجازر في حق عائلات مثل عائلة الدلو التي لحق أطفالها بإخوانهم في غزة والضفة، كونهم رجال الغد، أبطال القضية التي لا تموت، وقبلهم سقط الطفل محمد الدرة في حضن والده، وأطفال قانا في جنوب لبنان في مجزرة دامية لم تحترم علم الأممالمتحدة ولا حصانة المنظمة الدولية. وتذكرنا الحرب على غزة بما حدث عام 2008 عندما شن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت حرب «الرصاص المصبوب» ضد «حماس» في قطاع غزة بذريعة وقف تساقط صواريخها على إسرائيل، بينما كان هدفها الرئيس استقطاب الناخبين الإسرائيليين لتجديد انتخابه لولاية ثانية... وكأنه كتب على أهالي غزة أن يكونوا دائماً، عشية انتخابات الكنيست الإسرائيلي، كبش فداء لجنون القادة الإسرائيليين. فوجئت إسرائيل بصواريخ «حماس» البعيدة المدى تسقط في القدس وتل أبيب، ما أدى إلى مغادرة نتانياهو وكبار مساعديه مكاتبهم بهلع والنزول إلى الملاجئ، وتعطيل الحركة اليومية في تل أبيب والمدن الإسرائيلية الأخرى، وإشاعة موجات الخوف والتوتر في صفوف الإسرائيليين. وأثبتت الوقائع أن العدوان على غزة لم يعد مجرد نزهة للطائرات الحربية الإسرائيلية في سماء القطاع الصامد، ولم يعد سكان الداخل الإسرائيلي في منأى عن صواريخ المقاومة الفلسطينية، إذ عاشوا خلال هذه الحرب رعب الصواريخ التي تجاوزت أرض المعركة في المناطق الفلسطينية، لتصل إلى تل أبيب وعسقلان وبئر السبع، وغيرها من المدن ذات الكثافة السكانية. وتشكل حرب غزة منعطفاً في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي عموماً، والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي خصوصاً، نتيجة تحرك دول الربيع العربي وفي مقدمها مصر، من جهة، ودخول سلاح الصواريخ ميدان المعركة، من جهة ثانية. وقد أدارت مصر ملف الحرب على غزة بكفاءة عالية، فمدت يد الدعم والتأييد ل «حماس» من جهة، وقامت، بالتنسيق مع قطر وتركيا، بمروحة من الاتصالات الديبلوماسية بواشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي. وحرصت في اتصالاتها على المزاوجة بين الوقوف بجانب غزة في حقها المشروع في الدفاع عن شعبها، والمساعي للتوصل إلى وقف إطلاق النار بضمانات دولية، تحول دون تكرار اصطياد القادة الفلسطينيين، بعد وقف النار. وأما عن سلاح الصواريخ، فلم تمنع «القبة الحديد» التي نشرتها إسرائيل حول المدن لحمايتها من الصواريخ الفلسطينية، وصول هذه الصواريخ إلى أهدافها، إذ شكلت نسبة الصواريخ التي اعترضتها ودمرتها في الجو نحو 30 في المئة من الصواريخ المرسلة من غزة إلى الأراضي المحتلة. حقائق وبعد ثمانية أيام على عدوانها الفاشل، قبلت إسرائيل،على مضض، اتفاقاً للتهدئة مع قطاع غزة، فيه ملامح انتصار للمقاومة الفلسطينية وذل وخيبة أمل لها. ومن المبكر تقويم الحرب والتكهن بنتائجها، لكننا نستطيع في قراءة أولية لما جرى تبيان الحقائق الآتية: استطاعت «حماس» بصمودها وبراعتها في إدارة المعركة بشقيها العسكري والسياسي استقطاب الشارع الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، ونيل تأييد الشارع العربي الذي أصبح، في زمن الربيع العربي، أكثر انفتاحاً على القضايا القومية. وما ساعد في تحوّل الجماهير العربية تجاه «حماس» ابتعادها عن إيران والنظام السوري وتأييدها الثورة السورية. استطاعت «حماس» إقامة نوع من توازن الرعب بينها وبين إسرئيل. وإن كان هذا التوازن ما زال ضعيفاً وهشاً نتيجة ضخامة الآلة العسكرية الإسرائيلية المتطورة خصوصاً سلاح الطيران، إلا أنه يبقى عامل حذر وخوف لدى الإسرائيليين. استطاعت «حماس» تغيير طريقة تعامل إسرائيل معها، فبعد أن كانت إسرائيل ترسل، في حرب «الرصاص المصبوب»، شروطها إلى الوسيط المصري لوقف إطلاق النار على غزة، وجدنا اليوم المبعوث الإسرائيلي إلى القاهرة يحمل إلى دولته شروط «حماس» للقبول بالهدنة. وتتلخص هذه الشروط بوقف العدوان، وإنهاء الحصار، ووقف الاغتيالات المنهجية، وذلك بضمانات أميركية. غاب دور السلطة الفلسطينية في مفاوضات وقف إطلاق النار، وتلاشى نفوذها لدى الفلسطينيين، وباتت «حماس» أكثر منها تعبيراً عن أهدافهم وتطلعاتهم. وتكمن سلبيات هذا الغياب في تعزيز الفصل بين الضفة والقطاع. حصلت «حماس» على اعتراف العرب والغرب بتنامي قوة الردع لدى الجانب الفلسطيني الذي استطاع أن يوسع رقعة المعركة وينقلها إلى الداخل الإسرائيلي. وتعاملوا معها في مفاوضات وقف إطلاق النار بصفتها صاحبة القرار في غزة، ما قد يدفعهم لاحقاً إلى التعامل معها كمفاوض أساسي في حل القضية الفلسطينية، بصفتها الأكثر تمثيلاً للشعب الفلسطيني. استفادت «حماس» من المتغيرات الجذرية التي أحدثتها ثورات الربيع في العالم العربي، خصوصاً الثورة المصرية التي أوصلت رفاقاً لها في تنظيم «الإخوان المسلمين» إلى السلطة. معلوم أن علاقة «حماس» بمصر تتخطى الدوافع الأيديولوجية إلى اعتبارات جيوسياسية، كون مصر الحاضن الطبيعي لقطاع غزة ومنفذه شبه الوحيد إلى العالم. حصلت «حماس» على تعهد من إسرائيل، بضمانة مصرية وموافقة أميركية، بوقف عملياتها العسكرية ضد القطاع، ووقف استهداف الناشطين الفلسطينيين. وكذلك فتح المعابر وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع وعدم تضييق حرية السكان. هذا في الجانب الفلسطيني، أما في الجانب الإسرائيلي فقد تمكنت إسرائيل بغاراتها الجوية من اغتيال قادة وكوادر في «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى، وتدمير أهداف عسكرية ومقار حكومية وعسكرية وأمنية ومبانٍ سكنية ومؤسّسات تجارية، سقط فيها مئات المدنيين. ولم تستطع إسرائيل، على رغم ضخامة العملية العسكرية ووحشيتها، تحقيق أهدافها وتركيع الشعب الفلسطيني ووقف إطلاق الصواريخ على مناطق متفرقة فيها. وبدا واضحاً خلال العدوان ارتباك القيادة السياسية الإسرائيلية وترددها، نتيجة سيطرة كابوس الخوف من الخسائر على قراراتها. ومن المتوقع أن يرتد فشل العدوان سلباً على قادة إسرائيل في انتخابات الكنيست المقبلة، كما ارتدت نتائج حرب غزة على إيهود أولمرت بخسارته انتخابات 2009. حصلت إسرائيل من الاتفاق على هدنة طويلة تبعد مواطنيها عن خطر الصواريخ، وتعيد الحياة الطبيعية إلى المناطق المجاورة للقطاع. ولم يتطرق الاتفاق إلى المعابر الجوية والبحرية، ما يعني تمسك إسرائيل بمواصلة حصارها. وضمنت إسرائيل استمرار القيادة المصرية في لعب دور الوسيط الذي يعني استمرار العلاقة بينها وبين إسرائيل، وعدم تبدّل موقفها في المدى المنظور من اتفاقية كامب ديفيد. أما بالنسبة إلى مصر، فإنها استطاعت لعب دور كبير في التهدئة، ما يجعلها في المستقبل لاعباً رئيساً في الشرق الأوسط. والملاحظة التي يجب عدم إغفالها كان غياب الدور الإيراني، ما قد يؤشّر إلى بدء تلاشي النفوذ الإيراني في غزة. وغاب، خلال العدوان، المشهد السوري عن الصدارة من حيث التغطية الإعلامية الواسعة والمتابعة اليومية الدؤوبة والاهتمام لدى عواصم دول القرار، لأن المعني المباشر بما حصل هو إسرائيل. ونحن على يقين، بأن الثورة السورية ستعود منذ اليوم إلى صدارة الاهتمامات الدولية، خصوصاً بعدما توحدت أطرافها السياسية في «الإئتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة» الذي بدأ اتصالاته مع الدول العربية والغربية للحصول على اعترافها به كممثل شرعي وحيد للشعب السوري. * كاتب لبناني