تصريحات القيادة الإسرائيلية عن عملية عسكرية متدحرجة بدأها الجيش الإسرائيلي صباح السبت الماضي 27 ديسمبر الجاري، بمجزرة وحشية اجرامية لا تزال فصولها تتوالى حتى اللحظة الراهنة، تلك التصريحات لاتعني عملية اجتياح القطاع بأكمله وإسقاط حكم حماس فيه. فالهدف من التصعيد الحالي لا يتخطى، على الأرجح، حدود الأهداف الإسرائيلية المرحلية أو المباشرة والمتمثلة في ردع حماس واحتوائها وليس سحقها عسكريا، ووقف إطلاق الصواريخ، ومنعها (أي حماس) من مجرد التفكير في إمكانية رفع سقف التهدئة التي انتهت في التاسع عشر من ديسمبر الجاري، باجتراح صيغة أخرى أو تهدئة بطبعة ثانية، تحسن بها الحركة من وضعها الحالي ووضع أهالي القطاع معها. ويمكن القول أن إسرائيل وبعد توجيه الضربة الأولى في قطاع غزة، ومع بدء استنفاد الأهداف الخاصة ضد حركة حماس، فإن اجتياجا إسرائيليا للقطاع لن يتم، وسيبقى التصعيد الإسرائيلي الحالي تحت السيطرة اللهم إلا إذا استطاع صاروخ فلسطيني إلحاق خسائر بشرية فادحة في صفوف الإسرائيليين، أو نجح في إصابة موقع إستراتيجي، عندئذ يمكن أن تأخذ الأمور أبعادا أخرى ليست في الحسبان. سحق حماس.. بعيد المنال وهنا يستدعي الأمر بعض الإيضاح، ولكن بعد عرض مسوغات استبعاد العملية العسكرية الكبرى التي تستهدف إسقاط حماس، وأهمها: أولا: أن المستوى السياسي في إسرائيل لم يجب حتى اللحظة عن السؤال المتعلق بحسابات اليوم التالي لإسقاط حماس، أي من سيملأ الفراغ الذي سينشأ جراء ذلك، خاصة وأن مصر ترفض علنا تسلم المسئولية في القطاع، وإسرائيل إن دخلت غزة فلن يطول الأمر أكثر من خمسة أشهر على أقصى تقدير، وإلا تعرضت لاستنزاف عسكري مكلف وباهظ، خاصة وأن مشاركة عشرات الآلاف في الذكرى الواحدة والعشرين لميلاد حماس، مؤشر كاف على أن الحركة لم تفقد شعبيتها بعد في القطاع. ولا ننسى تصريحات شيمون بيريز لصحيفة الشرق الأوسط التي أدلى بها بين يدي التصعيد الراهن، حيث قال: "أننا لم نخرج من غزة لكي نعود إليها". أما الحديث من عودة محمود عباس وفريقه مرة أخرى إلى غزة، فثمة محاذير كثيرة على ذلك، من أهمها ضعف أجهزته الأمنية وعجزها عن السيطرة على قطاع لا يزال وجدانيا أميل إلى حماس، خاصة وأن الخريطة السياسية في غزة تغيرت كثيرا عما كانت عليه قبل "حسم" حماس العسكري. والأهم أن عودة الرجل على ظهر الدبابات الإسرائيلية سوف تحرقه أمام شعبه، في وقت لم يجلب له مسار أنابوليس حتى اللحظة، ما يشفع له، أو يرفع أسهمه قيد أنملة. بل إن عودة سلطة رام الله إلى غزة بعد عملية عسكرية إسرائيلية هي الأكثر دموية منذ سنوات، سوف تظهرها كجهاز عميل للاحتلال إذا قبلت هي بالمهمة، مما قد يفجر حركة فتح، ويثير انتفاضة ثالثة، ويبعث قوة حماس في الضفة والقطاع معا. يبقى الحديث إذن عن قوة دولية يمكن انتدابها للسيطرة على القطاع، ولضمان تطبيق الأجندة الإسرائيلية، لكن هذا السيناريو له شروط ومقتضيات ومناخات لم تتوفر بعد (والأرجح أنها لن تتوفر لاحقا)، وليس من اليسير القياس على التجربة اللبنانية في عام 2006، لأن الأمر مختلف كثيرا، فقد توفرت للحالة اللبنانية قوة دفع دولية وإقليمية ومحلية يصعب توفرها في الحالة الفلسطينية، وإن كان ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن ثمة مصادر ترى أن العملية العسكرية الإسرائيلية مرتبطة بخطة دولية وعربية لفرض دويلة فلسطينية منزوعة السلاح، لكن هذا على أي حال مرهون بنجاح العملية العسكرية بشكل ساحق، وهذا ليس سهل المنال. ثانيا: أن عدوانا عسكريا واسعا ضد قطاع غزة يمكن أن يؤدي إلى توحيد الفلسطينيين (وقد رأينا مظاهرات الضفة، بل ومواجهات أم الفحم داخل الخط الأخضر)، في وقت يحقق فيه استمرار الانقسام مزايا ضخمة لا يمكن لإسرائيل أن تفرط فيها بسهولة. وفوق هذا فلا مصلحة لإسرائيل الآن في إزالة حكم حماس في غزة، لأن استمرار الأوضاع الراهنة يحقق لها أكثر مما قد يحققه اقتلاع إدارتها في الوقت الراهن. والمقصد أن الاستمرار في إنهاك الوضع الفلسطيني، باستمرار الانقسام وتكريسه هو المفضل لإسرائيل في الوقت الحالي، لأن تقديرات أجهزتها الأمنية تشير إلى أن "الطبخة لم تنضح بعد"، ومن ثم لا داعي للمغامرة الآن. ثالثا: أن عامل الزمن يشكل البعد الأشد تعقيدا في عملية واسعة كهذه، إذ تشير جميع التوقعات إلى أن فرقتين من جيش الاحتلال الإسرائيلى، وربما أكثر من ذلك، سوف تستغرقهما معارك متواصلة لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر حسب الخطط الاسرائيلية الموضوعة، تضطران خلالها إلى التقدم على الأرض بعد معارك ضارية ومكلفة، وقد تنطوي على مفاجآت كثيرة، لتقسيم القطاع إلى ثلاثة مناطق معزولة عن بعضها، مع التحضير لحرب مستمرة في قتال شبه دائري تخوضه على الأرض، فى وقت سيصعب فيه التنسيق بينها كقوات برية متقدمة وبين سلاح الجو الإسرائيلى، وذلك لضيق مساحة مناطق العمليات وتداخلها، ناهيك عن أن فصل الشتاء غير مفضل عسكريا لسلاح الجو عموما. وفي تلك الأثناء من المتوقع أن تنجح فصائل المقاومة في الاستمرار في قصف البلدات الجنوبية لإسرائيل، ولو بعدد محدود من الصواريخ، مع إمكانية استخدام حماس خلال العمليات القتالية المعتمدة على القتال البري المتحرك، لصواريخ حديثة مضادة للدروع، من المرجح أنها حصلت عليها خلال الفترة الماضية، وهو ما يزيد في حجم الخسائر الإسرائيلية، وإدخال إسرائيل في حالة من الإحباط فيما يتعلق بمستوى الرضا عن أداء مقاتليها. وهذا يعنى في التحليل الأخير أن "ليفنى" و"باراك" سوف يدخلان مارثون الانتخابات على وقع خسائر الجيش التي لن تكون قليلة، وعلى وقع صفارات الإنذار في البلدات الجنوبية، ولا أعتقد أن الطرفين يفضلان خوض المعركة الانتخابية على وقع معركة أخرى، إن لم يخسرها الجيش فلن يجلب نصرا سهلا، وإنما سيكون نصرا مشكوكا فيه نتيجة الخسائر الكبيرة المتوقعة. حماس أمام معادلة جديدة وهنا يثار التساؤل، إذا كانت إسرائيل لا تبغي دفع الأمور نحو الانهيار الشامل، رضاءً أو اضطرارًا، وكذلك حماس التي لم تكن تود وصول الوضع لما هو عليه في ظل حصار خانق لقطاع غزة، فلماذا لم يتم تمديد التهدئة، ولماذا أصبحت الأمور مفتوحة على كافة الاحتمالات؟. هنا تتعين الإشارة إلى أن كلا الجانبين، حماس وإسرائيل، كانا قد أعلنا قبل موعد انتهاء التهدئة عن مطالب إضافية لتجديدها، كل بما يحسن شروطه من وجهة نظره. فحماس تريد التهدئة بثمن من إسرائيل، ومن الوسيط المصري أيضا، وهو رفع الحصار أو رفعه تدريجيا، أو قيام مصر بفتح معبر رفح على الأقل، ولعل القليل من الضغط بتهديد حياة البلدات الإسرائيلية القريبة من غزة لمنع التصعيد الشامل، يعطي حماس بعضا مما تريد، ومن ثم أعلنت عدم تجديد التهدئة، على أمل تحسين الشروط السياسية وليس الأمنية والميدانية فقط. ومن جانبها فضلت إسرائيل الاستمرار في الحالة كما هي، للاستمرار في التحكم بمفاتيح القطاع الاقتصادية والأمنية وحتى السياسية، واستمرار تكريس الانقسام الفلسطيني. ظهر الحديث عن وساطة جديدة ، بما أعطى انطباعا جديا بأن ثمة محاولة حمساوية لتحديد أطر جديدة للتفاهمات يضيف بعدا سياسيا عليها هذه المرة، وهذا يتحقق من خلال تدخل عنصر دولي مثل روسيا أو تركيا أو قطر، بحيث يفتح قناة تفاوضية بين حماس وإسرائيل، على الطريقة السورية، لا تتوقف عند حدود التفاهم على وقف إطلاق النار المتبادل، خاصة وأن حماس لا تزال ماضية في طريق ما تعتبره استحقاقا يؤكد الانفصال، سيما وأن النظام العربي أكد مرارا على شرعية الرئيس أبو مازن، بل وأكثر من ذلك طالبه باستمرار قيامه بمهامه إلى حين رأب الصدع الداخلي. هذا التكتيك السياسي من قبل حماس يقابل الآن بلعبة سياسية وعسكرية من قبل إسرائيل، لا تبدو خارج إطار دائرة إنشغال الإسرائيليين بالاستحقاق الانتخابي القادم، حيث انفتح بازار المواقف الانتخابية بين تسيبى ليفنى وبنيامين نتنياهو على رئاسة الحكومة القادمة، ومن ورائهم يسعى إيهود باراك إلى تحسين صورته وزيادة حصة حزبه المتهاوي في الاقتراع القادم. المقصد إذن، أن ما بين استمرار الحالة التي كان عليها القطاع على مدى ستة شهور مضت (كما ترغب إسرائيل)، ومحاولة تغييرها (كما ترغب حماس) يقف شلال من الدم الفلسطيني، كان يمكن تجنبه بالعودة إلى الوحدة الوطنية، ثم إطلاق المقاومة في الضفة الغربية ضد الحواجز وجنود الاحتلال وقطعان المستوطنين، بكافة الوسائل والطرق التي من شأنها تحشيد كل الطاقات والإمكانات في إطار الفعل المقاوم، إذ من دون ذلك لن تتغير المعادلة السياسية المتهالكة مع الإسرائيليين، سواء على جهة التفاوض أو جهة المقاومة، ومن دون ذلك سيظل العبث السياسي هنا وهناك مستمرا، ولن يحقق طرفا المعادلة الفلسطينية لا حلا سياسيا في الضفة، ولا فكا للحصار في غزة. وإذا كانت إسرائيل قد فرضت تطبيق خارطة الطريق من الجانب الفلسطيني وحده فى الضفة، وذلك في ظل الانقسام، رغم شهادة كل من الجنرال دايتون والجنرال فريزر المعنيين بمتابعة أداء السلطة، واللذين أكدا أن السلطة قامت بكل ما عليها من استحقاقات أمنية!، فها هي تسعى كذلك لفرض خارطة طريق مماثلة في غزة، أى إلزام حماس بوقف إطلاق الصواريخ، من دون التزام مماثل بوقف الاختراقات، أو فتح المعابر... فهل تستطيع حماس تغيير هذه المعادلة في ظل الانقسام؟ وهل الكلفة التى يستلزمها خيار كهذا من أرواح أبنائها وكوادرها، أقل كلفة من خيار القبول بالانتخابات حتى ولو أخرجت حماس من السلطة؟. باحث متخصص في الشؤون الفلسطينية