تخوض إسرائيل حروباً ضد قطاع غزة بين فترة وأخرى. لكن هناك معركة مفتوحة بعيداً من الاهتمامات العربية، تتعلق بمنع إسرائيل السلطة الفلسطينية من تطوير حقل «غزة مارين» الذي تقدر احتياطاته من الغازية بترليون قدم مكعبة. اكتشف الحقل عام 2000 «كونسورتيوم» بقيادة شركة الغاز البريطانية «بي جي» بالاشتراك مع صندوق الاستثمار الفلسطيني و «شركة اتحاد المقاولين» (مقرها أثينا، وهي من أكبر شركات المقاولات العربية). وكانت السلطة الفلسطينية منحت في تشرين الثاني (نوفمبر) 1999 شركة «بي جي» امتيازاً يمتد 25 سنة للتنقيب عن البترول في المياه الفلسطينية مقابل ساحل غزة. وعلى أثر اكتشاف الحقل، قدمت شركة «بي جي» للسلطة الفلسطينية عام 2002 خطة لتطوير الحقل، على أساس بدء الإنتاج منه بعد أربع سنوات. بدأت المفاوضات مباشرة بعد اكتشاف الحقل، بين السلطة الفلسطينية وشركة «بي جي» من جهة والحكومة الإسرائيلية من جهة أخرى، ضمن فصل التعاون الاقتصادي في اتفاقية أوسلو. وانطلقت المفاوضات في حينه على الأسس الآتية: حاجة إسرائيل إلى الغاز الطبيعي، خصوصاً بعد تقليصها كمية المنتجات البترولية لتوليد الكهرباء، وحيازة السلطة الفلسطينية احتياطاً من الغاز الطبيعي، وحاجة شركة «بي جي» لتسويقه. طبعاً، تركز الاهتمام في البداية على تزويد محطة كهرباء غزة بالغاز، إلا أن الكميات المتوقع استهلاكها كانت ضئيلة نسبياً ولا توفر لوحدها المعطيات الاقتصادية الكافية لإنجاح المشروع. من ثم، اقترحت شركة «بي جي» في حزيران (يونيو) 2000 على شركة الكهرباء الإسرائيلية الحكومية (التي كانت في حينه محتكرة إنتاج الكهرباء في إسرائيل وتوزيعها)، تزويدها الغاز من حقولها في مصر وفلسطين وإسرائيل. لكن «بي جي»، لم تكن الشركة الوحيدة ذات الإمدادات الغازية في المنطقة. فقد عرض كونسورتيوم مصري - إسرائيلي، «شركة غاز شرق المتوسط» (المؤلف من شركة «مرحاف» الإسرائيلية ورجل الأعمال المصري حسين سالم) بيع الغاز المصري لإسرائيل، وهذا ما تم بالفعل، ثم توقف بعد الثورة. أما اتفاق البيع، فتنظر المحاكم المصرية بشبهات فساد متعلقة به، نظراً إلى أسعار الغاز البخسة التي وفرتها مصر لإسرائيل في حينه وعمولات محتملة. رفضت الحكومة الإسرائيلية في بادئ الأمر عرض «بي جي» لشراء غاز غزة لسببين رئيسين: اعتراض رئيس الوزراء آرييل شارون لأسباب أمنية (رفضه اعتماد إسرائيل على الإمدادات من بلد عربي واحد)، وقد غيّر رأيه في 2002. ثم تفضيل الغاز المصري بسبب سعره المغري. وقد توسط رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير في المفاوضات، محاولاً إيجاد سوق إسرائيلية لغاز غزة، وفلح في إقناع شارون بسحب الفيتو. لكن الأخير وضع شروطاً تتضمن الاتفاق على تزويد إسرائيل 0.05 ترليون قدم مكعبة من الغاز الفلسطيني سنوياً لتوفير الغاز لإسرائيل لمدة 10 إلى 15 سنة. لكن أهداف شارون الحقيقية توضحت في 2003، إذ اشترط عدم تحويل الريع الغازي إلى السلطة الفلسطينية، بحجة منع تمويل «الإرهاب». واقترحت إسرائيل بدلاً من ذلك إيداع الريع الغازي في «الحساب الخاص»، الذي يستعمل لاستلام المساعدات الخارجية وأموال الضرائب التي تسلمها إسرائيل للسلطة الفلسطينية. وبعد شهور من المفاوضات، وقعت إسرائيل اتفاقاً مع شركة «غاز شرق المتوسط» للتزويد بالغاز المصري لمدة 15 سنة. واستلم إيهود أولمرت رئاسة الحكومة الإسرائيلية ومحمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، كما استمر طوني بلير في مساعيه للتوسط. ووافقت الحكومة الإسرائيلية في 29 نيسان (أبريل) 2007 على السماح بالتفاوض مع «بي جي» لكن، بالشروط الآتية: تشتري إسرائيل 0.05 ترليون قدم مكعب من الغاز الفلسطينيي سنوياً ب4 بلايين دولار، بدءاً من عام 2009، وتحول إسرائيل الريع الغازي إلى «الحساب الخاص» من دون أن يكون هناك أي صلاحية لحركة «حماس» للسحب من المبلغ المودع. واشترطت أيضاً أن يمتد خط الأنابيب من حقل «غزة مارين» إلى مدينة أشكلون في الأراضي الإسرائيلية ومنها يوزع إلى بقية المناطق الإسرائيلية، كما يتم إيصال الغاز من أشكلون إلى قطاع غزة. ما يعني أن إسرائيل ستتحكم بإمدادات الغاز التي تتزود غزة بها. لكن كونسورتيوم «بي جي» رفض هذه الشروط وتوقف العمل في الحقل منذ حينه. كما أغلقت «بي جي» مكتبها في تل أبيب. وعلى أثر انتخابات 2007، واستلام حركة حماس السلطة في 14 حزيران 2007، أعلنت في غزة عن نيتها تغيير بنود الاتفاق، بخاصة حول حصة الجانب الفلسطيني (نحو 10 في المئة). رفضت إسرائيل تطوير الحقل بعد رفض شروطها. ولا إنتاج حتى الآن، أي بعد 12 سنة تقريباً من اكتشاف الحقل. وفي الأشهر الأخيرة، ومن أجل حفظ ماء الوجه مع اللجنة الرباعية الدولية، أعلنت إسرائيل أنها تدرس إمكان استيراد غاز غزة، على ضوء توقف الغاز المصري. لكن حقيقة الأمر، أن إسرائيل بصدد تحقيق اكتفاء ذاتي من الغاز، بل حتى تصديره، بدءاً من نيسان 2013. وعلى رغم انقطاع الغاز المصري، فهي ليست في حاجة إلى إمدادات أضافية. لذا، من غير المحتمل أنها ستوافق على تطوير حقل «غزة مارين». لا شك في أن عدم تطوير حقل «غزة مارين» يضيع فرصاً ثمينة على السلطة الفلسطينية وواردات مالية هي في أمس الحاجة إليها. كما أن غزة والضفة الغربية في حاجة إلى مصدر الطاقة هذا، بدلاً من استيراد الوقود بكلفة عالية من إسرائيل. وهنا، على السلطة الفلسطينية (بتعاون كل من فتح وحماس) الوصول إلى اتفاق مع أسواق المنطقة، أولها السوق الفلسطينية ذاتها ومن ثم الأردنية. وبما أن احتياطات «غزة مارين» محدودة نسبياً، فمن الممكن أن يوفر الغاز الفلسطيني جزءاً من حاجات الأردن، بخاصة بعد انقطاع الغاز المصري. * مستشار في نشرة «ميس» النفطية