صاحبت اكتشاف البترول (النفط والغاز) في معظم أنحاء العالم تداعيات سياسية. وينطبق هذا الأمر الآن على عمليات الاستكشاف في شرق البحر المتوسط، فهناك حالات حرب ما بين بعض دول المنطقة، واحتلال دول أراضي دول أخرى، وغياب الحدود البحرية ما بين بعض هذه الدول قبل الاكتشافات البترولية. حصلت الاكتشافات الأولى في شرق المتوسط في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات شمال الإسكندرية وبور سعيد في المياه الإقليمية المصرية. وحققت الصناعة البترولية المصرية نجاحاً ملحوظاً، من خلال جهودها وتعاونها مع الشركات الدولية، في تطوير الصناعة البترولية في مياه البحر. وبسبب هذه الاكتشافات، تشجعت الشركات الدولية، خصوصاً منها العاملة في المياه المصرية، على التنقيب في المياه الفلسطينية حيث منحت السلطة الفلسطينية عام 1999 كونسورتيوم تقوده شركة «بي جي» البريطانية مع شركة «اتحاد المقاولين الدولية» و «مؤسسة الاستثمار الفلسطينية» رخصة للتنقيب في مياه غزة لمدة 25 سنة. واكتُشف حقل مهم عام 2000 هو حقل غزة مارين. لكن على رغم مضي ما يزيد عن عقد من الزمن على الاكتشاف، لم يطوَّر الحقل لإصرار إسرائيل على مد خط الأنابيب من الحقل إلى عسقلان أولاً، ومن ثم إلى غزة، لتأخذ كمية من الغاز إلى سوقها المحلية تحددها هي، إضافة إلى مطالبتها بسعر مخفض للغاز. ورفِضت هذه المطالب، فتوقف تطوير الحقل، ما حرم قطاع الكهرباء في غزة من التزود بوقود محلي ونظيف (الغاز)، بدلاً من استيراد المازوت من إسرائيل. اعترفت إسرائيل بأن موقع حقل «غزة مارين» هو في المياه الفلسطينية، لكنها منعت استخدامه من خلال تهديداتها العسكرية المستمرة لقطاع غزة والشروط المجحفة التي طالبت بها، كما صعّدت من اعتدائها على الحقوق الفلسطينية من خلال الحفر الجانبي لتسحب الغاز من الحقل الفلسطيني. وأدى وقف تطوير حقل «غزة مارين» إلى إخفاق السلطة الفلسطينية في الحصول على مورد طاقة محلي مستقل وإلى لجوء إسرائيل إلى استيراد الغاز من مصر بحسوم كبيرة جداً. والحقل المنتج الوحيد لدى إسرائيل الآن هو حقل صغير يدعى «ماري ب» ويبلغ معدل إنتاجه نحو 138 مليون قدم مكعبة يومياً وتكاد أن تنفد احتياطات الحقل في عام 2013، وهو يقع بمحاذاة المياه الفلسطينية. وبدأت الاستكشافات البترولية في إسرائيل في الخمسينات. لكن لم تكتشَف حقول بترولية تجارية، في اليابسة أو المناطق البحرية إلى الآن. وتعود الأسباب إلى امتناع الشركات الدولية عن التعامل مع إسرائيل، خوفاً من المقاطعة الاقتصادية العربية، إلى حين التوقيع على معاهدة كامب ديفيد، وإلى قلة خبرة الشركات البترولية الإسرائيلية في المناطق البحرية العميقة في مقابل الساحل الإسرائيلي. ومما ميز الاكتشافات الأولية الإسرائيلية في البحر، هو قربها من مياه الدول المجاورة (فلسطين ولبنان وقبرص)، ما فتح الباب واسعاً أمام نشوب صراعات سياسية وقانونية، خصوصاً لعدم رسم الحدود البحرية قبل الاكتشافات، وهي مسألة كبيرة أوجدت الكثير من المشكلات بين دول أخرى في حالات مشابهة. سورية وحاولت سورية عام 2007 طرح مناقصات للاكتشاف والإنتاج من ثلاث مناطق بحرية، لكن لم يحصل اتفاق مع أي من الشركات الدولية في حينه على أي من هذه المناطق لأسباب اقتصادية. ومن المخطط له، طرح مناقصة أخرى خلال عام 2011 بعد إجراء دراسات مسح زلزالية إضافية في المنطقة ذاتها، لكن من المستبعد نجاح هذه المناقصة بسبب العقوبات الاقتصادية المتعددة ضد سورية خلال هذه الفترة. ويذكر أن الحدود البحرية ما بين سورية ولبنان لم ترسَّم حتى الآن. وهناك مشكلة لسورية مع تركيا، إذ إنها تجد صعوبة في رسم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة مع قبرص بسبب المعارضة والضغوط التركية، لتداخل هذه المنطقة مع مياه جزيرة قبرص الشمالية الشرقية، التي تحتلها تركيا ولا تعترف بها أي دولة في العالم غير تركيا. واتخذت تركيا موقفاً متشدداً حيال التنقيب في المناطق الوسطية والشمالية من شرق المتوسط، محاولة ربط موقفها هذا بالمفاوضات الجارية ما بين القسم الشمالي للجزيرة وجمهورية قبرص وذلك من أجل دعم موقف القسم المحتل من جانبها. وموقف تركيا هو أن أي إنتاج من المياه القبرصية يجب أن يوزع ريعه ما بين جمهورية قبرص والجزء الشمالي من الجزيرة. وضغطت تركيا في شدة على كل من سورية ولبنان لعدم توقيع اتفاق مع قبرص حول المنطقة الاقتصادية الخالصة قبل الأخذ في الاعتبار وجهة نظرها. وبالفعل لم تستطع سورية توقيع اتفاق حتى الآن. أما بالنسبة لاتفاق لبنان وقبرص فقد أهمل مساحة غير محددة في الشمال حتى الآن، ويُتوقع إجراء مفاوضات إضافية لتسوية هذا الأمر. قبرص وبادرت قبرص قبل سنوات إلى توقيع اتفاقات لتحديد حدودها البحرية مع الدول المجاورة، خصوصاً مصر وإسرائيل ولبنان. كما شرعت قبرص القوانين اللازمة للبدء بالاستكشاف والحفاظ على البيئة وطرحت مناقصة فازت فيها شركة «نوبل إنرجي» الأميركية بالامتياز في القطعة الرقم 12 المجاورة للمياه الإسرائيلية. و «نوبل إنرجي» هي الشركة ذاتها التي تقود الكونسورتيوم الذي عثر على حقول الغاز في المياه الإسرائيلية الشمالية. وبدأ الاستكشاف في القطعة الرقم 12. لكن تركيا أعلنت أنها ستحفر في المنطقة ذاتها، متذرعة مرة أخرى بأن هذه المنطقة جزء من مياهها، بحجة احتلالها الجزء الشمالي من الجزيرة. وبدأت «نوبل إنرجي» الحفر في المياه القبرصية خلال خريف 2011 (أوائل تشرين الأول - أكتوبر) وعثرت على شواهد غازية في البئر الأولى، ما يتطلب الحفر على أعماق أكبر للتأكد من وجود كميات تجارية من الغاز. وأرسلت البحرية التركية بوارجها إلى نقطة قريبة من مواقع الحفر للتهديد وتسجيل موقف سياسي، لكنها لم تتدخل في أعمال الحفر أو تحاول إيقافها. وأعلنت قبرص أن مناقصة ثانية ستجرى عام 2012 لاستقطاب شركات بترولية أخرى للاستثمار في المياه القبرصية. وأصدر لبنان خلال صيف 2010 قانون النفط للمياه البحرية، وينتظر أن تعلن وزارة الطاقة في الربع الأول من عام 2012 مناقصات للشركات الدولية، التي أخذت تبدي اهتماماً ملحوظاً بالتنقيب في لبنان، يتوقَّع تشكيل إدارة للبترول من مهنيين لبنانيين أواخر عام 2011. ورسم لبنان حدود المنطقة البحرية الخالصة مع قبرص، لكنه ترك مساحات غير مرسومة في كل من الجزء الشمالي والجنوبي لهذه الخريطة. وأودع وثيقة لدى الأمين العام للأمم المتحدة حول حدوده البحرية، إلا أن إسرائيل لم تعترف بهذه الحدود، كما أنها تجاوزت المنطقة المؤجل تحديدها ما بين قبرص ولبنان وضمتها إلى مياهها. وحذّرت الحكومة اللبنانية في عهد رئيس الوزراء فؤاد السنيورة «نوبل إنرجي» من خرق القوانين، واتهمتها بأنها تنقب في المياه اللبنانية وحمّلتها التبعات القانونية لذلك. ووجه وزراء خارجية لبنان مذكرات احتجاجية للأمين العام للأمم المتحدة بخصوص تعديات إسرائيلية على المياه الإقليمية اللبنانية. واتهم «حزب الله» إسرائيل بالتعدي على الثروات الطبيعية اللبنانية، وحذر من ضرب المنشآت البترولية. وردت إسرائيل على ذلك بالإعلان عن مشاريع لتقوية دفاعاتها البحرية حول المنشآت البحرية. وثمة اتصالات مع الأممالمتحدة كي تفوم إحدى وحدات قوات ال «يونيفل» البحرية برسم الحدود البحرية المتنازع عليها. واقترحت الشركات الإسرائيلية العاملة مع «نوبل إنرجي» تصدير الغاز الإسرائيلي إما عن طريق قبرص أو اليونان. لكن على رغم المشاريع الكثيرة المعلنة، لم توافق السلطات الإسرائيلية حتى الآن على أي من هذه المشاريع، إذ تطالب بعض الأطراف الحكومية والسياسية بتأمين احتياطات غازية كافية للاستهلاك المحلي لمدة 50 سنة، قبل أن تصدر إسرائيل الغاز. ويبدو موضوع تصدير الغاز الإسرائيلي سابقاً لأوانه، إذ لم يبدأ الإنتاج من الحقول الشمالية حتى الآن (ليس قبل 2013). ومشاريع تصدير الغاز تتطلب بلايين الدولارات وسنوات كثيرة لدراسة الأسواق، والأعمال الهندسية، وإجراء مفاوضات مع الدول المعنية بالاستيراد أو المطلوب عبور الغاز أراضيها. * مستشار لدى نشرة «ميس» النفطية