يعد مفهوم اليوتوبيا واحداً من أكثر المفاهيم رواجاً في الأدبيات الفلسفية والسياسية. فالمفهوم الذي بدأت تجلياته الأولى في البزوغ مع جمهورية أفلاطون، ثم تأسس في كتب عربية ك «المدينة الفاضلة، للفارابي، أو غربية ككتاب «اليوتوبيا» لتوماس مور، كان ولا يزال أحد أبرز المفاهيم التي تداعب خيال الحالمين بتغيير الواقع إلى الأفضل ولذلك ارتبط بنبوءات المثقفين والمفكرين المتفائلة في شأن التغييرات الكبرى التي يمكن أن تحدث للشعوب والمجتمعات، ما دفع المثقف والأكاديمي الأميركي راسل جاكوبي لبلورة كتابه «نهاية اليوتوبيا السياسية والثقافية في زمن اللامبالاة»، حول سؤال مركزي يطرح فيه فرضية وجود أناس يؤمنون بأن المستقبل يمكن أن يكون أفضل من الحاضر. إلا أن ذيوع مفهوم اليوتوبيا لم يعرقل بزوغ نقيضه الجدلي وهو «الدستوبيا» الذي يعبر عن رؤية متشائمة للواقع والمستقبل، يمكن أن تفرزها مناخات الصراع السياسي والقمع في النظم الشمولية والفاشية، وهو ما عبرت عنه بجلاء الكتابات التي كرست هذا المفهوم كرواية «عالم جديد شجاع» للكاتب الإنكليزي ألدوس هكسلي أو رواية «1984» لمواطنه جورج أورويل. ولعل الأمر المثير للدهشة حقاً أن العملية السياسية التي تلت الثورة المصرية شكلت عملية انتقال من اليوتوبيا إلى الدستوبيا، فمع سقوط نظام مبارك تصور كثيرون أن مصر بصدد تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية كبرى وعميقة تعيد صياغة المجتمع من جديد، إلا أن هؤلاء الحالمين بوغتوا بواقع صادم بعد الثورة سارت فيه الأمور بعكس ما كان متوقعاً ومأمولاً، وهو ما دفع هؤلاء إلى التراجع عن أحلام اليوتوبيا واستبدالها بكوابيس الدستوبيا، وكانت نتيجة ذلك شيوع تلك الرؤية السوداوية في شأن مستقبل مصر في الشارع وبين صفوف النخبة على حد سواء. هنا يثور سؤال ملح هو لماذا سارت الأمور على هذا النحو على رغم أن البيئة السياسية بعد الثورة كانت تبشر بميلاد حال يوتوبية خالصة، وعلى رغم امتلاك تيارات الحركة الوطنية المصرية كذلك لثوابت وطنية مشتركة ورؤى شاملة للتغيير طرحتها بكثافة خلال عصر مبارك؟ وهنا تبرز إشكالية أساسية وكبرى تطرح بين طياتها إجابة لهذا السؤال وتتعلق بالأساس بطبيعة الخطاب السياسي الرديء الذي استخدمه هؤلاء الفرقاء منذ سقوط مبارك وأدى إلى تحويل مفهوم اليوتوبيا إلى أداة للصراع في ما بينهم. فمصر تشهد منذ سقوط حكم مبارك ما يمكن أن نطلق عليه صراع يوتوبيات بين الثوار والقوى العلمانية والإسلاميين. فالثوار يتمترسون خلف يوتوبيا الدفاع عن أهداف الثورة في مواجهة القوى التقليدية التي تريد سرقتها، كما أن القوى العلمانية تمترست هي الأخرى خلف يوتوبيا مجابهة فاشية الحكم الديني، والإسلاميون بالمقابل يتمترسون خلف يوتوبيا مضادة تهدف إلى تخليص مصر من هؤلاء العلمانيين الأشرار. ولذلك فإن كل طرف من تلك الأطراف لم يدرك بعد بفعل تلك الخطابات اليوتوبية المتصارعة حجم الأزمة التي خلقها بممارساته على أرض الواقع، فالثوار لم يدركوا حقيقة انفلات الظاهرة الثورية من أيديهم وتبلور تيارات أكثر راديكالية بين صفوفهم، ما أدى إلى تآكل قاعدتهم الشعبية ولم يفطنوا كذلك إلى أسباب ضعف قدرتهم التنظيمية، كما أن القوى العلمانية لم تحاول بعد تحسين وضعيتها في الشارع السياسي بالإندماج بين الجماهير وبناء قاعدة شعبية تؤهلها إلى منافسة حقيقية مع الإسلاميين الذين لا يدركون فشلهم في إنتاج خطاب سياسي قادر على التواصل مع النخب العلمانية وتأكيد الطابع المدني الديموقراطي للدولة ونظامها السياسي فتحولت بذلك السلطة من وسيلة إلى غاية وتحولت الثورة أداة لصنع الاستبداد بحسب نبوءة جورج أورويل في رواية «1984»، ما أدى إلى الإجهاز على مفهوم اليوتوبيا بمعناه الحقيقي. فهذا الصراع الممعن في فوقيته ونخبويته تسبب في اتساع الفجوة بين تلك الأطراف الفاعلة في الحال الثورية وبين مطالب الجماهير البسيطة والملحة. فانصراف النخبة لصراعاتها وعدم التفاتها إلى مطالب الجماهير كانت نتيجته ارتداد تلك الجماهير إلى أمورها المعيشية اليومية وموت أحلامها الكبرى والمطلقة في تغيير الواقع للأفضل، ففقدت بذلك أهم مكتسباتها الثورية ألا وهو إدراكها لقدرتها على إنجاز تغييرات تاريخية كبرى عبر فعل نضالي واحتجاجي. * كاتب مصري