يرغب الإنسان بما هو ممكن، ويرغب أكثر بما لا يمكن الحصول عليه. تتأسس الرغبة، في الحالين، على حرمان قابل للتعريف، وعلى معاناة لا تمكن السيطرة عليها. استدعت الرغبات الإنسانية المقموعة، كما الشوق إلى ترويض المجهول، منذ زمن طويل، حلم المدينة الفاضلة، التي يبنيها الخيال ولا يعرف الذهاب إليها. جعلت آماد الرغبة، التي لا تبدّلها الأزمنة، المدينة الفاضلة قائمة في لامكان، وعطفت عليها زمناً متجدد الولادة، يمتد من أفلاطون وتوماس مور إلى زمن «الخيال العلمي»، المؤسس على العلم الحديث. وإذا كان الناقد الأدبي الروسي ميخائيل باختين قد لمح المدينة الفاضلة، أواليوتوبيا، في الكرنفال الشعبي، الذي يحرّر الجسد الإنساني من ثقل العادات، فقد قرأها الناقد الأدبي الأميركي فريديك جيمسون في «رواية الخيال العلمي»، التي تصوغ المكان والزمان كما تريد. كان باختين، في كتابه عن رابليه، واجه الانضباط السلطوي المتيبّس بالعفوية الشعبية الطليقة، التي تضع الإنسان خارج مكانه وزمانه، مقرراً أن يوتوبيا الإنسان تقوم داخله، وأن حلم الإنسانية الأكبر التحرّر من الأعراف المستبدّة. لم يكن باختين بعيداً من «فلسفة الأمل»، التي تقنع الإنسان بأن ما يصبو إليه قائم فيه، وأنّ «اللامكان»، هو تعريف اليوتوبيا، فارغ، وغير جدير بالبحث والملاحقة. قارب جيمسون، في كتابه «حفريات المستقبل»، المدينة الفاضلة بمنظور مختلف، معتمداً على رواية الخيال العلمي، التي تطرد بعيداً خرافات القرون الوسطى، وتصل بين المستقبل المرغوب وآثار الفعل الإنساني، القائمة على الإرادة والمعرفة. فهذه الرواية، التي تغاير كلياً الفنتازيا والأوهام المجنحة، لم تكن ممكنة من دون التقدّم العلمي - التقني، القابل للمعاينة في الحاضر والماضي، والذي تبصر الأحلام العاقلة ملامحه في المستقبل. شيء قريب من قياس اللاحق على السابق، الذي يشتق الرغبات الإنسانية الثابتة من آثار إنسانية متحوّلة، ويعهد إلى «الزمن العلمي» بمحو المسافة بين المركبات الفضائية وكائنات مجنحة هجس بها الخيال الإنساني القديم. ومع أن في المحو المفترض ما يقرّب بين رواية الخيال العلمي والحكايات السحرية التي تعبث بالذاكرة الإنسانية، فالمقارنة بين الطرفين فاسدة، ذلك أن مرجع الحكايات ذهني يحيل إلى الثبات، على خلاف رواية الخيال العلمي، التي تساوق إبداعاً علمياً، ينطوي على الفعل والتجدد. لا يدفع الاحتفاء ب «التقدم» وبما يفضي إليه، فريدريك جيمسون إلى ضبط العلاقة بين «الفنتازيا» ورواية الخيال العلمي، إن لم تكن لديه «رغبة» في المصالحة بينهما. ففي مواجهة التاريخ، الذي تعترف به «الرواية» وتصطدم بعوائقه، تبدو «الفنتازيا» متحررة من التاريخ كله، تنزلق من زمن إلى آخر وتلغي ما يواجه حركتها. وسواء كان ضبط العلاقة ممكناً بين «متخيّلين مختلفين»، أو أقرب إلى الانفلات، فإن جيمسون مشدود إلى الممكن وتوسيع آفاقه، من دون التشدّد في أشكال السبل التي تفضي إليه، انطلاقاً من نزوع إنساني حر متعدد الاتجاهات. ففي «الفنتازيا» ما يخبر عن توق شعبي قديم إلى السعادة، يتوسل تخيّلات طليقة، وفي رواية الخيال العلمي ما يساوي بين الواقعي والمحتمل، وما ينقل الإنسان من كوكب إلى آخر، مرتكناً إلى ما جاء به العلم وما سيجيء به. ليست رواية الخيال العلمي، والحال هذه، إلا شكلاً من «التغريب العلمي»، يشير إلى المنجز العلمي ويوسّع آفاقه، ويشتق من المألوف العلمي وجوهاً غير مألوفة ولا متوقعة. جمع جيمسون بين تساؤلات نظرية، تقرأ الفارق بين الفولكلور الشعبي و «روايات العلم» المحتملة، وتأملات سياسية تعاين الفارق بين «اليوتوبيا» التي تعد بالسعادة، واليوتوبيا المضادة التي تنفي أحلام المتطلعين إلى العدالة. لا غرابة في أن يربط، هذا الماركسي الأميركي، بين اليوتوبيا والاشتراكية المرجوّة، وبين الاستبداد السياسي، واليوتوبيا المضادة، كما صاغها أورويل وألدوس هكسلي، وأن يبيّن أن أشكالاً من اليوتوبيا تنتهي إلى يوتوبيا مضادة. جعل جيمسون، من بحثه الجمالي - الفلسفي الأنيق، قناعاً للفصل بين ما يوطّد قهر الإنسان وظلمه، وبين فكرة الحرية التي كلما عطّلها المستبدون انبثقت من جديد. لا يختلف بحثه، من حيث المعنى، عن بحث باختين، الذي نقد الاستبداد الستاليني بخطاب أدبي، إذ في الرواية المتعددة الأصوات، التي قال بها، ما ينقض أحادية الصوت الشمولي، مثلما أن في حيّز الكرنفال، المرح الساخر المرن، ما ينقض يباساً سلطوياً أقرب إلى الموات. حرّر جيمسون مخلوقات «الخيال العلمي» من غرابتها، اعتماداً على مفهوم: المشابهة. ذلك أن الإنسان يتخيّل ما يشبهه، ويرى ما يردّ إليه، ولا يعترف إلا بما له به علاقة، مقترباً من الفكرة القائلة: لو لم تعرفني لما فتشت عني. لذا، تشبه المخلوقات الفضائية، التي «تستضيفها الأرض»، البشر الذين يستضيفونها. ظهرت المشابهة واضحة في رواية ويلز «حرب العوالم»، حيث الظلم الذي تمارسه «المخلوقات الوافدة» على أهل الأرض، لا يختلف عن الظلم الذي كان ينزله «الإنسان الأبيض» بشعوب البلدان المستعمرة. ليس في هذا المثال ما يبهج جيمسون كثيراً، إذ في يوتوبيا العلم يوتوبيا مضادة، وإن كان فيه ما يدعم فكرته عن المشابهة، التي تعيّن الإنسان جذراً لجميع المخلوقات المحتملة. تستعيد الفكرة، مرة أخرى، «مبدأ الأمل»، الذي قال به الفيلسوف الألماني أرنست بلوخ، في النصف الثاني من القرن العشرين، ورأى في كل إنسان حالم مدينة فاضلة تلتبس بوجوده، وتنهاه عن السفر إلى مدن فاضلة بعيدة، ولا وجود لها. دفعت اليوتوبيا المضادة جيمسون إلى التمييز بين المتخيّل المشرق والمتخيل المعتم، طالما أن اليوتوبيات جميعها تسيل من المتخيل وتعود إليه، كما لو كانت ضروب المتخيل مرآة لاختلافات البشر، تصوغ رؤى متضاربة. لذلك يقول: «لا تقدم اليوتوبيا، من حيث هي شكل، صورة لبدائل جذرية، إنها مجرد دافع لتخيلها». والسؤال هنا: ما الفارق بين البدائل الاجتماعية، متخيّلة كانت أو غير متخيّلة، أو ما الفارق بين بديل متخيّل وآخر له صياغة نظرية مباشرة؟ يفتش جيمسون عن السبل المفضية إلى التحرّر، محاذراً فكرة «الإنسان الكوني» الذي يحيل نظرياً على رغبات كونية. وقد نسأل هنا: إذا كانت المشابهة عنصراً أساسياً في رواية الخيال العلمي، فإنسان الأرض يشبه إنسان المريخ، فما هي حدود هذه المشابهة في رغبات البشر، وهل لأهل المريخ رغبات متضاربة؟ يكمن الجواب، ربما، في رواية نجيب محفوظ، المأخوذة بفكرة الصدف العمياء، التي تدفع بإنسان أعمى لا يحسن الكلام إلى بيت هجره ساكنوه. يثني جيمسون على المتخيّل، الذي يدفع بالإنسان إلى طريق فاضل، لم يكن يتوقعه. لكن في ثنائه ما يستدعي «متخيلاً فاضلاً»، يتوزع على الجميع، لا وجود له. ولعل قصور المتخيل هو الذي يجعل الإنسان يتخيل تداعي الأرض والطبيعة، قبل أن يتخيل تصدّع الرأسمالية المتأخرة، التي لازمت العولمة كما يقول جيمسون. إنه استبداد العادات اليومية في المجتمع الرأسمالي، أو التشيّؤ، الذي يمحو المسافة، أو يكاد، بين الشيء والإنسان. وعلى رغم تصور، يثني على المتخيّل ويصطدم معه، فإن جيمسون، المؤمن بديالكتيك التاريخ والعالم، يتمسّك بفكرة خلاص الإنسان، مستجيباً إلى الحرية التي تمثلها رواية الخيال العلمي، القابلة للنمو الصحيح، أو إلى فضيلة اللامتوقع، التي يرفض أن يكون المستقبل تكراراً للماضي. يصل جيمسون إلى الرهان المتفائل، الذي هو وجه من وجوه الأمل الضروري، مقترباً من حديث فالتر بنيامين عن ضرورة الأمل، وعن الانبثاق السعيد الذي يكسر رتابة الأزمنة. فبمقدار ما يحتاج الأمل هؤلاء الذين لا أمل لهم، يحتاج الحاضر، المحاصر بسطوة الماضي، تمرداً خلّاقاً يعيد ترتيب الأزمنة. تبدأ رواية الخيال العلمي بالتقدم العلمي وتطبيقاته وتنتهي، في الخطاب المتفائل، إلى حتميات أخلاقية، تحكي عن إمكانيات الإنسان المتنوعة، وتحرر الإنسان من طريق الصراع، ومن القصد التحرري الذي يملك طاقة الهدم والبناء. لا غرابة في أن يكون في خطاب جيمسون أشياء من فلسفة الفن عند هربرت ماركوزه، الذي نقد البيروقراطية ومجتمع الاستهلاك، ورأى في الفن ملاذاً، يقي الإنسان من سطوة الاغتراب. تفاءل جيسمون ب «التغريب العلمي»، الذي تفصح عنه إمكانيات رواية الخيال العلمي، الموحدة بين العلم والحرية، واطمأن ماركوزه إلى «التغريب الفني»، الذي يعيد إلى الإنسان المغترب جوهره المفقود. من اللافت أن يبدأ الطرفان بحديث سياسي عن التحرّر، وأن ينتهيا إلى مفهوم فني، ذلك أن «التغريب» لصيق بالمسرحي الألماني برتولت بريشت، الذي مايز بين المسرح السياسي (أولوية الموضوع على غيره) وتسييس الأدوات الفنية، التي تفرض التسييس علاقة داخلية في التقنيات الفنية المسرحية. المدينة الفاضلة حلم تخترقه المفارقة يفصح، في وجه منه، عن سعي الإنسان إلى بناء عالم لا استغلال فيه ولا عنصرية ولا مرض ويفصح، في وجه آخر، عن آماد الشر التي تلازم المجتمع الإنساني. كما لو كانت تنظر إلى الأحلام والكوابيس في آن، قائلة بأن «اللامكان» هو أفضل الأمكنة. ويبقى، في الحالات جميعاً، «موت الإنسان»، الذي لا علاج له، الذي تمر إلى جانبه رواية الخيال العلمي وتلتزم الصمت، بعيداً من يوتوبيات كلاسيكية وعدت الإنسان، أكثر من مرة، بشباب لا يزول. ليس في تصورات جيمسون ما يمس سؤال الموت، ما دامت «رواية العلوم» تعتنق فكرة «المشابهة»، التي تعطف إنسان الفضاء على إنسان قديم، رحل وترك وراءه مقابر دارسة. المدينة الفاضلة حلم عصيّ على التحقّق، جماله الدائم من غيابه المستمر، الذي لا يسمح بالاختبار. إذا كان موت الإنسان قانوناً لا استثناء فيه، فإن التمسّك بمدينة لا شرّ فيها تعبير عن الشجن والبطولة، لأن بطولة الإنسان من أحلامه.