عام مضى على ثورة 25 يناير المجيدة والتي أبهرت العالم بأسره وصارت مصدر إلهام لكل ثوار العالم وكل الحالمين بالتغيير ، في معجزة ربانية كاملة خالفت كل التقديرات الأمنية والتحليلات السياسية والفرضيات الإستراتيجية عن التغيير وانتقال الحكم و تداول السلطة ، ولأن الثورة كانت حدثا فريدا استثنائيا في بلد له خصوصية كبرى جعلته بحق ودون انحياز قلب العالم الإسلامي والعربي النابض ، فإن معركة خصوم الثورة قد بدأت منذ اللحظة الأولي لنجاحها ، وتلاقت رغبات أطراف خارجية وداخلية عديدة على إفشال هذه الملحمة البطولية وتعطيلها وحرف مسارها ، مما جعلها وبعد مرور عام من اندلاعها مازالت عاجزة عن تحقيق أهم أهدافها ، فلماذا تعطل مسار الثورة وانحرف مسارها وانخفض سقف طموحاتها إلى هذا الحد الذي جعل كثير من المصريين يتضجر من استمرارها حتى الآن ؟ جميع من اشترك في الثورة وكل أطرافها ومكوناتها من شتى الأطياف ، بل لا أكون متجنيا إذا قلت أن شرائح كبيرة من الشعب المصري ، مسؤول بقوة عن تدهور نتائج الثورة والرجوع بالبلاد إلى الخلف كثيرا ، الجميع وقعوا في أخطاء جسيمة لا نستطيع أن نعفي منها طرف دون آخر ، والحيادية والمهنية تقتضي تقييم الأمر برمته ومن جميع زواياه وأطرافه . ومن أهم الأخطاء التي وقعت فيها جميع أطراف الثورة هو استحضار روح الأيدلوجية في التنافس والتجاذب السياسي الذي شهدته البلاد عقب الإطاحة بمبارك ، وهي الروح التي غابت عن الميدان في أيام الثورة الأولى ، وغيابها كان من أهم أسباب نجاح الثورة وانبهار العالم بها ، فلو اختص تيار بعينه بأعباء القيام بالثورة لما نجحت هذه الثورة أبدا ، فسر نجاح الثورة الأول كونها ثورة شعبية من الطراز الأول اشترك فيها كل شرائح الشعب ومكوناته ، فالعالم كله رأى في أيام الثورة تلك المشاهد الرائعة التي تلاحم فيها جميع أطياف المجتمع ومكوناته دون تمييز ودون رفع رايات أو استحضار للمرجعيات والخلفيات الثقافية أو الدينية ، الجميع اتحد في ثوب وقلب ثائر ، فكانت الثورة التي أبهرت العالم ولم يستطع أحد أن يوقفها أو يردعها رغم ضراوة النظام ووحشيته وأدوات قمعه وبطشه المرعبة ، هذا المشهد الملحمي انقلب بعد الثورة لمشهد مأساوي ودرامي ، وإذا بالراية والمطلب الواحد يتحول لرايات شتى ومطالب متغايرة ، ولكن يا ترى من المسئول عن استحضار هذه الروح إلى الميدان ؟ هل هو التيار الإسلامي الذي استقوى بشعبيته الجارفة وإصراره على مسار معين للثورة بدء من الموافقة على التعديلات الدستورية لثقته الكاملة في الفوز ؟ أم هو التيار العلماني الذي انشغل بتشويه الطرف المقابل له دون أن يهتم ببناء قاعدة شعبية لأفكاره وأطروحاته ؟ والحق أن كلا الطرفين قد وقع في أخطاء جمة في مرحلة ما بعد الإطاحة بمبارك ، ولكن مكمن الداء الأساسي الذي قاد المنافسة السياسية لحلبة الصراع الأيدلوجي يتمثل في رفض التيار العلماني الاعتراف بحجمه وأثره الحقيقي في الشارع المصري ، رفضه الاعتراف بكونه نبتا غريبا على الشعب المعتز بعروبته وهويته ، ورفضه الإقرار بأنه أقلية بسيطة الأثر والعدد في الشعب المصري ، وإصراره العجيب على تحريف الهوية المصرية وإلباسها ثوبا غريبا عنها وعن مبادئها وأصولها وتاريخها ، هذا الرفض جعل الأقلية العلمانية لا تحترم رغبة الأكثرية ، ولم تكترث بقواعد وأصول اللعبة الديمقراطية ، التي أظهرت ميل الشعب نحو تطبيق الشريعة وتجسد ذلك عبر صندوق الانتخاب ، وتعامل التيار العلماني والليبرالي مع الديمقراطية بمنطق العربي القديم الذي كان يصنع صنمه الذي يعبده من العجوة ، فيعبده حينا من الدهر حتى إذا جاع أكله ! ، وهذا التدافع العلماني الواضح كرّس مفهوم الأيدلوجية في المنافسة السياسية ، إذ ألبس العلمانيون هزيمتهم المريرة في كل سباق انتخابي ثوب زور اسمه " رفع الشعارات الدينية " على الرغم من كون العديد من الأطراف العلمانية قد رفعت الشعارات الدينية مثل الكتلة المصرية والوفد وكلاهما رفع شعار " الشريعة دستورنا " . أما الثوار الذين بقوا في الميدان والذين لهم الكثير من المطالب المشروعة ، وبقاؤهم في الميدان كان بمثابة الدرع الواقي لمطالب الثورة من التآكل والضياع ، تحولوا مع الوقت لنوع من أنواع الاستبداد المقنع ، وأصبحوا عبئا ثقيلا على الثورة، ووقعوا في أخطاء كثيرة زادت من معاناة الثورة ، من أبرزها أنهم لم يشكلوا مجلسا قياديا للثورة يتحدث باسمهم ويمثلهم في اللقاءات والمفاوضات السياسية ، فأصبح المجال مفتوحا لعشرات الطموحين من المجاهيل والباحثين عن الأضواء والشهرة ، وانبرى الجهلاء والدخلاء للتحدث باسم الثورة ، وهذا الفراغ القيادي مهد السبيل لظهور تنظيمات ذات أيدلوجيات انتهت وسقطت حتى في بلد منشأها مثل التنظيمات الشيوعية والاشتراكية الثورية ، ومهد السبيل أيضا لظهور تنظيمات الفوضى والتفتيت التي تعود بالبلاد من مرحلة الدولة لمرحلة القبيلة والعشيرة ، وكل هذه الأفكار والأيدلوجيات ناهيك عن سقوطها وشدة فسادها فهي مرفوضة تماما من الشعب المصري ومن أي شعب مما جعل أصبح مرادف الثوار في وجدان كثير من المصريين الآن مرادفا للفوضى والخراب والفساد والدمار ، أضف لذلك بعض الممارسات التي قام بها الثوار وأغضبت المصريين من إغلاقهم للميدان وتعطيلهم لمصالح الناس ، وإصرارهم على التصعيد ورفض الحوار ولو كان مقبولا وعقلانيا ، ومسارعتهم لرمي كل من خالفهم بالعمالة والخيانة ، وكثير من الثوار المعتصمين بالتحرير أصابهم الغرور والتكبر على الرغم من ضحالتهم الفكرية وحداثتهم السياسية وبعدهم الفعلي عن قضايا المجتمع وعدم مبالاتهم بقضايا من عينة الاقتصاد والأمن والاستقرار .