بينما كان المتحدث منهمكاً في شرح التقنية الجديدة لريّ المناطق الصحراوية، أمام حضور محتشد في القاعة، صدح صوت الرائع الراحل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد مؤذناً لصلاة العصر! صمت المتحدث، واستدارت الرقاب إلى مصدر الصوت، فأخرج المهندس رجب هاتفه المحمول من جيبه، ليرتفع صوت الشيخ الجليل مالئاً جنبات القاعة. تصور البعض أن المهندس رجب سيطفئ الهاتف أو يسكته، أو حتى يخفض صوته، لكنه وضعه على الطاولة أمامه وشاح نظره في فضاء القاعة متمتماً بالتكبير والتوحيد، وأمارات الورع مرسومة على ملامحه. انتظر المتحدث حتى نهاية الأذان، ثم وجه كلامه إلى المهندس رجب، مؤنباً، مذكراً إياه بأن المنظمين طلبوا من الحضور إغلاق الهواتف أو إلغاء خاصية الصوت قبل دخول القاعة. فما كان من المهندس إلا أن صاح مستنكراً: «هل تطلب مني أن أسكت صوت الأذان؟! أستغفر الله العظيم يا رب»! وفي لمح البصر، انقسمت القاعة فريقين: الأول يعتنق الإسلام السياسي الاجتماعي النفسي، المندد بطلب المتحدث إسكات صوت الأذان، والثاني يؤمن بالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالعمل عقيدة وبالنفاق خطيئة وبخلط الأوراق رذيلة. وانبرى أحدهم من الفريق الثاني لتنبيه صديقه المهندس رجب إلى أن احترام ساعات الندوة، وعدم تشتيت ذهن المتحدث، والابتعاد عن المزايدة بالدِّين إنما هو الإسلام الحقيقي، لا سيما أن الهاتف ذاته، الذي يحمله الشخص نفسه، كان قبل شهور قليلة يصدح في مكان العمل دلالاً: «رجب حوش صاحبك عني»! حماتك أم مديرك؟ الجدل الذي دار في القاعة حوّل رنّة الأذان، وتناقضها الواضح مع مناشدة هيفاء وهبي ل «رجب» بأن يُبعد صاحبه عنها والتي كانت تصدح من الهاتف الخليوي عينه، نقطة في بحر هائج ومائج اسمه «رنات المحمول». لم تعد رنة «نوكيا» الكلاسيكية أو رنة «هاتف جدّي» التاريخية الأكثر انتشاراً، بل بات شعار «شخصيتك من رنتك» هو الغالب الأعمّ. ولأن المصريين يملكون 92 مليون خط هاتف محمول (بحسب أرقام 2012)، ولأن النسبة الأكبر من المصريين تشعر بمحدودية القدرة على التعبير عن نفسها بحرية، إلا في حدود بالغة الضيق، أبرزها اختيار رنات الهواتف، فقد تحولت الأماكن العامة في مصر، من الشارع إلى مكان العمل وعربة مترو الأنفاق... إلى ساحات عبثية للعزف الموسيقي والكلامي المتضارب وغير المتجانس، لكنه معبّر وكاشف لما يجري ويُختزن في بواطن المجتمع المصري وتراكيبه النفسية والاجتماعية. فمن رنة «نوكيا» الوحيدة، ومعها بضع رنات رديئة أقرب ما تكون إلى موسيقى «فرقة حسب الله» أو ألعاب الأطفال رديئة الصنع، تطورت منظومة الرنات لتنتشر الرنّة الشخصية التي تتغنى باسم صاحب الهاتف المحمول، إلى أخرى تعكس مشاعر المالك اتجاه المتّصلين، وقد يحدّث الرنّة بحسب حالته المزاجية وظروفه الاجتماعية، وأخيراً تطور الأمر لتصبح رنّة الهاتف سبيلاً إلى... الجنّة. لكن جنة الاختيار المفتوحة تعِد كل موعود بالرنّة التي تميّزه عن غيره. فمن أجل «ابتسام» و «نجلا» و «أروى»، وكذلك لخاطر «سمير» و «منير» و «نديم»، يدفع المصريون ملايين الجنيهات تلبية لنداءات مثل «لو عاوز الكول تون دي اضغط شباك» أو «حمّل رنات واكسب حسنات» أو «رنتك باسم حضرتك». وبعد انبهار مبدئي بالرنّات الشخصية التي تحث «مهى» على الرد، أو تدفع «سُهى» إلى قول «آلو»، تنوّعت الأماني والرغبات و «الخطابات»، بين مستخدم لا يجد ما ينفّس به عن شحنة الغضب في داخله تجاه مديره في العمل، فيخصص له رنة تنبهه إلى أن «هناك شخصاً تافهاً يتصل بك»، أو عن وقوعه ضحية لقهر حماته التي تتصل به، فتصيح الممثلة الراحلة ماري منيب برنّة مبتكرة «إنت إتكلم إتكلم إتكلم وأنا مش أسمع»، أو لعله لا يسعد بمكالمات أبيه التي تطارده فيخصص له العبارة الشهيرة التي وردت في مسرحية «مدرسة المشاغبين» «إقفل السكة إقفل السكة»! لكن خفة الظل والتنفيس غير المباشر عن مشاعر القهر والظلم والضيق لا تستمر كثيراً، إذ تتغير منابع القهر وتتنوع أسباب الضيق. ف «تامر» الذي فرّق بينه وبين «شيماء» كلام الناس، لم يجد سلواناً له سوى جورج وسوف الذي يرنّ مغرداً «كلام الناس لا بيقدم ولا يأخر، وليه يا حبيبتي نسمعهم، بحبك مهما قالوا الناس». أما «شيماء»، فتفضّل المطرب محمد محيي الذي يغدق كلمات العشق واللوعة كلما اتصل بها أحدهم منشداً: «يا ريت كان يبقى سهل أنساك، يا ريت في البعد بانسى هواك». لكن هوى تامر وشيماء المشبع بالعشق والهيام عبر رنات الهواتف، يتحول إلى شعارات وهتافات لدى آخرين ممن أقحموا هواتفهم ورنّاتها في السياسة. فقبل نحو 20 شهراً، كانت هواتف المصريين تتنافس في ما بينها في التغزّل ب «ميدان التحرير». وموجة أغنيات الثورة التي تغنت بالميدان وثورته وثواره وشهدائه وحريته، طالت رنّات الهواتف التي راحت تنضح بالثورية والحماسة والحلم ب «مصر جديدة». العسكر والمحبوبة كما أرّخت رنّات الهواتف المحمولة لتطورات الفترة الانتقالية بكل عجائبها وغرائبها وألغازها. فكم من ثوري اختار لهاتفه رنة «الجيش والشعب إيد واحدة»، التي سرعان ما اختفت ليحل محلها «يسقط يسقط حكم العسكر». وسقط حكم العسكر، لكن الأغنيات الثورية النابعة من ميدان التحرير سقطت معه، أو بالأحرى تبخرت في الهواء، ولم يتبق منها سوى تساؤل ال «كينغ» محمد منير الاستنكاري عن سبب قسوة المحبوبة (مصر) على رغم حبه الجارف لها. فبينما يرن الهاتف متسائلاً، بصوت منير: «إزاي ترضي لي حبيبتي، أتمعشق في اسمك وإنتِ، عمّالة تزيدي في حيرتي... وحياتك لأفضل أغيّر فيكِ لحدّ ما ترضي علي»، ولأن المحبوبة ما زالت في حالة عدم رضا عارم على كل ما يموج بها، فإن ال «كينغ» مستمر في سؤاله الاستنكاري «إزاي»، وفي الوقت نفسه يتصارع المتناحرون (سياسياً وخليوياً) في كل ركن برناتهم المتضاربة والمتناقضة. ففي الباص الواحد يصرخ الشيخ الجليل عبر الهاتف: «اللهم اجعل القبور بعد فراق الدنيا خير منازلنا، وافسح بها ضيق ملاحدنا»، ليتداخل معه صوت تامر حسني أو هشام عباس متعنيّاً بأسماء الله الحسنى، ثم ينبري من بين الجموع المتلاصقة من يبدو أنه يفضّل ضحكة طفل أو مواء قطة أو زقزقة عصفور تحرض صاحب المحمول على الإجابة على اتصال. وعلى استحياء، وبصوت خافت، يرنّ أحد الهواتف بعبارة: «العدرا فرحت ببشارة جبرائيل، وقلوبنا هللت بميلاد عمانوئيل»، لكن سرعان ما تغطي على الكلّ، الرنّة الأصلية صاحبة اليد العليا «تررر ترررر»، لتعقبها التحية الليبرالية «آلو»، أو الدينية «السلام عليكم»، غير أن محتوى المكالمات، بعد التحية والسلام، واحد إلى كبير.