يعاني الوعي الديني الإسلامي من فوضى عارمة قد توقظ فتناً لا تبقي ولا تذر. ويخبرنا تاريخ الإسلام كيف كانت الدول تقوم وتقعد على رماد الوقيعة والفتنة. لذلك السبب قيل الكثير من روايات الوعيد حول من يوقظون الفتنة النائمة وينفخون في رمادها. لكن السؤال الأهم: هل محكوم على المسلمين بالإقامة الدّائمة فوق رماد الفتنة النائمة؟ في واقع الحال، تبدو جغرافية العالم السنّي كأنها من أكثر مناطق العالم تأثراً بحالة الفوضى الدينية المؤدية إلى الفتن. وهو الأمر الذي يجعل الكثيرين يظنون بأن الحل الأمثل يكمن في تنميط الحقل الديني وإخضاعه لضوابط مؤسساتية صارمة، أسوة بالحالة الشيعية أو الحالة الكاثوليكية على سبيل المثال. غير أن هذا الخيار قد لا ينتج غير الاستبداد الديني، مثلما يحدث في إيران. لكن، هل ثمة من اقتراح آخر؟ فعلاً، تعاني دول «الهلال السني» من فوضى دينية عارمة تجعل كل من هبّ ودبّ يتكلم باسم الإسلام، وأحياناً لمجرّد سبحة في اليد وزبيبة صلاة وغيرهما من لوازم الشغل. لكن البديل عن هذه الفوضى المفضية إلى العنف والاقتتال، لن يكون عبر مأسسة وهيكلة مجال هو أصلاً مجال العاطفة والشوق والخيال والحرية. وليس مثل هذا ما يُضبط أو ينضبط بأي حال من الأحوال. لا تعود أسباب الفوضى الدينية التي تجتاح دول «الهلال السني» إلى غياب السلطة الدينية الناظمة، وإنما هي بخلاف ذلك، بسبب تلك الرّغبة الجامحة في تنميط تجربة دينية تظل في أصلها وأساسها غير قابلة لأي تنميط. وليس يخفى أن كل مظاهر الإسلام الإخواني والإسلام السلفي والإسلام الجهادي إلخ، ما هي إلاّ تجليات لسباق المسافات الطويلة نحو تنميط الحقل الديني لغاية التحكم فيه. لكنه سباق إلى الخلف! إنها بصريح العبارة مجرّد تجليات لنزعة «الهروب من الحرية»، إذا ما استلهمنا عنواناً قوياً لأحد مؤلفات إريك فروم. والحق يقال، قد تبدو الحرية الدينية مخيفة حين تتيح لنا أن نقرأ القرآن الكريم بأي حرف نشاء، وبأي مصحف نشاء. وبسبب الخوف من هكذا حرية قررنا ترسيم مصحف واحد، على أساس حرف واحد، على أساس رسم واحد، وحتى على أساس قراءة واحدة، وتفسير واحد، وهكذا. نعم، قد تبدو الحرية الدينية مخيفة حين تسمح لنا بأن نصلي ونبتهل على النحو الذي نشاء، وأن نسبح بمختلف المعاني الجسدية والرّمزية اللاّنهائية في هذا الكون الفسيح، لا سيما أن البشرية على وشك أن تستوطن مجرات بعيدة. لكن، بسبب الخوف من هكذا حرية مفتوحة، جاء ضبط وتقعيد وتقنين حقل الإلهيات، كما لو كان الأمر يتعلق بقواعد الهندسة أو قوانين المرور. بكل تأكيد، قد تبدو الحرية الدينية مخيفة حين تمنح كل واحد منا الحق في أن يستفتي قلبه أولاً وأخيراً، ما يعني أن يستفتي ضميره الأخلاقي والإنساني الحر، وأن يستعمله من دون تعطيل، طالما أن الإسلام السني خال من رجال دين. غير أن الخوف من هكذا حرية ساقنا في الأخير إلى تخريج ملايين الدعاة والوعاظ والفقهاء والأئمة والخطباء والعلماء وأمراء الجماعات وهلم جراً. عالم الغيب في الإسلام هو عالم الغياب المطلق، عالم لا يحضر ولا يمكن استحضاره اللهم من باب المجاز. وهكذا نفهم كيف جاء الخطاب القرآني بلغة مجازية. لا يمكن لعلاقتنا بالله تعالى أن تكون علاقة معرفة وإدراك. لذلك قال صدر الدين الشيرازي: «لا يعرف الله إلاّ الله»، ولذلك يردد الصوفية دوماً عبارة «العارف لا يُعرف». إنما علاقتنا بالله هي علاقة مجازية قائمة على الذوق والشوق والخيال. لأجل ذلك، أجمع جل فلاسفة الإسلام، مثل الفارابي وابن سينا وابن عربي، على أن طريق الاتصال هو الخيال. وذلك هو الرأي الذي أكده بوضوح سبينوزا حين كتب يقول: «لم يتلق أي شخص وحياً من الله من دون الالتجاء إلى الخيال، أي إلى كلام أو إلى صور، وينتج من ذلك أن النبوة لا تتطلب ذهناً كاملاً بل خيالاً خصباً». ميزة الخيال أنه تجربة فردية خالصة، ففي مجال الخيال لكل واحد عالمه الخاص والذي لا يخضع لأي قواعد أو معايير موضوعية. هكذا نستنتج أن تجربة الدين تظل أقرب إلى تجربة الحب الإنساني. ففي كليهما «محكوم علينا بالحرية»، إذا ما استلهمنا تعبيراً بليغاً لسارتر. ومثلما لا يمكننا تنميط الحب، لا يمكننا تنميط الدين أو صياغته ضمن قواعد صارمة تملي على الناس كيف يجب أن تكون علاقتهم مع الله. في غياب الحرية يصبح الحب اغتصاباً، وفي غياب الحرية يراد للدين أن يصبح إرهاباً.