في وسط المسرح كرسي قديم، وفي الخلفية على الجدار رقعة بيضاء تماماً، تظهر عليها كتابات عشوائية. أصوات همهمة متقطعة، وبقعة ضوء تسقط في شكل عمودي. ثم تظهر الفنانة السورية لويز عبد الكريم لتروي قصص «المندسة» التي تعنون العرض المسرحي المونودرامي للمخرج المصري أحمد صالح، ونصّ السوري خلف علي الخلف. منذ اللحظة الأولى، ندرك أن شيئاً ما سيحدث، لكننا لا نعلم ما هو. الموت المقيم والخوف الذي يسيطر على لويز، سرعان ما يصبحان الأمل الذي تنتظره ويتحول في النهاية إلى واقع. عرضت مسرحية «المندسة»، قبل أيام، في مسرح «روابط» في القاهرة، وستعرض أول الشهر المقبل في مكتبة الاسكندرية تلبية لدعوة من نقابة الصحافيين، علماً أنها عرضت قبل أشهر في قطر ضمن مهرجان ثقافي خاص بالثورة السورية. وللتذكير، لويز هي أحد أبرز الوجوه ضمن المجموعة التي أطلقت دعوة إلى الإضراب عن الطعام والتضامن مع الشعب السوري، الشهر الماضي، ومعها لينا الطيبي والشاعرة رشا عمران وعدد من الناشطين والفنانين، واختتم الإضراب الذي استمر أياماً بيوم تضامني مع السوريين في عدد من الدول. تسرد لويز في «المندسة» (والعنوان مستوحى من اتهامات ألصقها النظام بالمتظاهرين في مختلف أنحاء سورية منذ انطلاقة الثورة) بسرد قصص الماضي الجميل، قصص قصيرة فيها سعادة وفرح، وفق لعبة ذكية تستمد الحكايات من الحلم والواقع، وتستعين أيضاً بالذاكرة المترعة بألوان البؤس. السرد ليس مجرداً ولا خالياً من الصور، بل يتخذ من صراع البطلة مع ذاتها ومحيطها إطاراً له، ما يدفع بالمتفرج إلى تنظيم نتف الحكي التي بعثرها الكاتب بطريقة ممتعة تثير الحواس. تبدأ البطلة باستعادة تاريخ ميلادها في «اليوم المشؤوم»، وتنتقل إلى علاقتها بمعلمات المدرسة كونها ابنة شاعر ولا تعرف ما يكتب والدها، ثم صورة الطفل الشهيد في الثورة حمزة الخطيب، لتتذكر بعدها الاتصال المفاجئ من صديقة الطفولة حنان ولهجتها الساخرة من الثورة التونسية: «يريدون إسقاط بن علي ليتسلّم السلطة الإسلاميون؟»، وكيف حدّدت حنان موقفها ضد الثورات العربية لتنهي اتصالها بعبارة: «ديري بالك من حالك»... «من» وليس «على». كأنه تدفق هستيري لشخص منوم مغناطيسياً وقبالته طبيب يستمع. كأن الجمهور طبيب نفسي. تتذكر والدها المتوفى، فتسرع إلى خلفية المسرح لتختفي برهة في الجزء المظلم منه، ثم تعود إلى بقعة الضوء. توفي والد لويز في المعتقل، كما تروي، بعدما طلب من عزرائيل أن يستل روحه التي لا جدوى من بقائها، كأنه فهم اللعبة أخيراً. هكذا، يتداخل الماضي بالحدث الآني، والرغبة الدفينة قد تكون رسم ملامح المستقبل. وتعود إلى حنان، لتدخل معها في حديث جانبي عن بداية الثورة، ومحاولتها إخفاء مشاعرها الحقيقية لمصلحة نوع من التوازن... لكن صورة حمزة الخطيب غيّرت المعادلة. تسترجع بكاءها (الحقيقي لا المجازي) في الدوائر الحكومية، لتوقيع ورقة في الوطن الذي «ترعرعت فيه»، فيما استوطن والدها المعتقل مع عشرات الآلاف. تخبر لويز كيف سمعت بالبوعزيزي وهي في الغربة: «رتّبت البيت بسرعة وتسمّرت أمام التلفزيون، حاولت أن أشرح لابنتي معنى ما يحدث، قالت: يعني ماما بدّن يسقطوا النظام عنا؟... ويوم 15 آذار (مارس) 2011 لم أصدق! تظاهرة في سورية تطالب بإسقاط النظام!». تحلق لويز في فضاء خاص غيّب الحلول الإخراجية الهشة ربما، فغدا العرض أنشودة لويز، وزغرد الجسد المرن. رسمت به حمائم، ولا مجّانية في حركات يديها. حتى البناء الصوتي خدم تجسيد كل قصة من «البازل» التي قدّمتها، فتوافقت مع الهمّ العام عبر التفاصيل الشخصية، والصراعات التي عاشتها لويز مع نفسها والآخرين، بعناصر الزمان والمكان والرائحة والصوت والضوء. ولعلّ قوة النص هي التي أعطت المسرحية زخمها، من دون الأدوات المسرحية المستخدمة التي بيّنت ثغرات أساسية. فالصور الموضوعة في الخلفية لم تحمل أي مدلول فني أو سينوغرافي، وكأن المخرج وضعها للزينة. أما الموسيقى والغناء فكانا رتيبين، على رغم الغليان الداخلي للشخصية، ولم يتواءما مع الفضاء الداخلي والخارجي للعرض، فبدا العرض ممثلة فحسب.