عندما هجروا بيوتهم حملوا معهم مفاتيح الأبواب، مع أنهم يعلمون أنّ ما من أبواب ستبقى ولا بيوت. لكنّها عادة النازحين دوماً، أو المهجّرين، الذين لم يتسنّ لهم أن يحملوا معهم سوى المفاتيح... هذا ما فعله الفلسطينيون عندما احتلت اسرائيل أراضيهم وأحياءهم وبيوتهم في 1948، عام النكبة... غادروا، لكنّ مفاتيح الأبواب ظلت معهم، خبّأوها في صدورهم، ظناً منهم أنهم سيعودون يوماً... لكنّ النازحين السوريين الذين ينتشرون على الحدود، حدود بلادهم، في قرى تركيا وفي سهول الأردن ولبنان، أصرّوا على حمل مفاتيح أبوابهم معهم، وعلى الحفاظ عليها. إنهم يعلمون جيداً أنّ جنود النظام دمّروا بيوتهم وأن الطائرات أغارت على أحيائهم وجعلتها أنقاضاً، لكنهم لم يقدروا على التخلّي عن مفاتيح أبوابهم. إنّها كلّ ما تبقى من حياتهم التي كانت هناك، حتى الأمس القريب، إنّها الذكرى التي سيحفظونها في قلوبهم، حتى وإن عادوا ولم يجدوا بيوتهم... البيوت غالية جداً على قلوب اصحابها، وكذلك الابواب والمفاتيح، العتبات والنوافذ. هكذا فعل الفلسطينيون قبلهم ولكن من غير أن يعودوا، وما زالت المفاتيح في أدراجهم وقلوبهم، لم يتخلوا عنها، رغم الصدأ الذي تأكّلها. السوريون سيعودون حتماً، بعد أشهر، بعد سنة... سيعودون، ولو الى أطلال منازل وأحياء... ما زال بعض من فلسطينيي المخيمات في لبنان والأردن وسورية، كلّما تسنى لهم أن يطلّوا على الشاشات الصغيرة، يُخرجون ما تبقى معهم من مفاتيح، عندما يتكلّمون عن فلسطين المحتلّة وعن ذكرياتهم هناك. الآن يفعل السوريون، سوريو المخيمات، مثلهم، عندما يبدأون الكلام عن مأساتهم. والفرق أن مفاتيح النازحين السوريين لا تزال جديدة ولامعة، على خلاف مفاتيح الفلسطينيين. لكنّ لحظة الألم هي نفسها، ألم النزوح والتشريد والتهجير، بل وقد يكون ألم السوريين أشدّ وقعاً، لأن من هجّروهم هم بعض من أهلهم... حقيقةً أو زوراً. مَن كان يتصوّر أنّ آلافاً من السوريين سيغادرون منازلهم ومدنهم وقراهم ليصبحوا بين ليلة وضحاها في عداد المهجّرين والنازحين المقيمين في المخيّمات، على الحدود، حدود بلادهم؟ مَن كان يتخيل أنّ مخيمات اللاجئين السوريين ستنتشر مثل الفطر في القرى والمدن التي تجاور بلادهم؟ إنهم لاجئون، وإن لأشهر أو سنة، يقطنون الخيام، الشمس أحرَقتهم طوال الصيف، والشتاء يهدّدهم بأمطاره، بالبرد والصقيع. إنهم لاجئون، يكادون يتسوّلون الرغيف والرداء، الأمراض تهدّدهم، والجوع يهدّدهم، الليل والعراء. المشهد هو نفسه تقريباً، لكنّ النازحين ليسوا فلسطينيين، والعام ليس 1948، عام النكبة. إنهم سوريون، والعام هو 2012 والقرن هو الحادي والعشرون، قرن العولمة، قرن «القرية» الكونية... المشهد هو نفسه، البؤس نفسه، الذلّ نفسه... الخيام اختلفت قليلاً، إنها الآن أجمل وأحدث، هيئات الاغاثة أصبحت أشدّ جهوزاً، والاعانات باتت تصل أسرع مما من قبل... أما النازحون فهم النازحون، الهوية تختلف، لكنّ النزوح يظل واحداً، بما يحمل من ألم وبؤس وذل... على الحدود التركية، على حدود لبنان والأردن، تنتشر المخيّمات السورية بكثرة. لم تبقَ هناك أمكنة تتسع لهؤلاء الغرباء القادمين من قلب الجحيم، لم تبقَ خيام ولا فرش ولا ثياب ولا طعام... لم يبقَ ما يكفي من فرق للاعانة والاغاثة... النزوح لا يتوقف، النزف لا يتوقف، مهجّرون يتلوهم مهجّرون، يغادرون، يتوهون، يصلون أو لا يصلون... ووراءهم ترتفع سحب الدخان من البيوت والحقول، وراءهم يدوّي قصف الطائرات وأزيز الرصاص. كان، في السابق، عندما يقال «مخيم»، تتبعه للفور صفة «فلسطيني». ولطالما ارتبط هذا الموصوف بصفته هذه في الذاكرة العربية... الآن استطاع «البعث» السوري، «البعث» العسكري السوري «المقاوم» و «الصامد» أن يوسّع المعجم وأن يضفي صفة جديدة على مفرداته... مع هذا «البعث» أضحى المخيم سوريّاً أيضاً، ومثله النزوح والتهجير والقتل وسائر الأفعال الشنيعة التي تفرّد بها عدوّنا، عدوّنا الذي لم نعد نعرف مَن هو.