منذ عشرين عاماً تقريباً، برز نهج سياسي قضى بجمع مهجرين ومهاجرين وهاربين من حروب أهلية أو حروب بين بلدان جيران، في مخيمات. وهذا النهج يعم أقاليم وقارات متفرقة منذ نهاية الحرب الباردة. والى ذلك الحين غلب على استقبال هذه الجماعات، المهجرين والمهاجرين إلخ، طابع انساني وتعاطف لا ينكران. ومنذ عقدين تقريباً تنقلب السمتان هاتان على «أهالي» المخيمات ونزلائها. فالمخيم انقلب وسيلة عزل أو «كرنتينا»، وأداة رقابة. وأصبحت إقامة نزلاء المخيمات في مضاربهم الى أَجَل غير معروف، ولا يحده وقت معروف. وإذا علم المخيِّمون متى بدأ تخييمهم، فهم لا يعلمون متى نهايته أو ختامه. والمخيم الفلسطيني هو مثال هذا الصنف من المخيمات. ففي 1948، طرد 700 ألف فلسطيني، فقصدوا أريحا ونابلس، أو الاردن وسورية ولبنان، خارج فلسطين. وحلّوا مخيمات تحولت مدناً أو أحياءَ مدن لا يزالون مقيمين بها، ويحجر عليهم فيها دوام نزاع لا يبدو أفق حله. وبعضهم لا يزال يحتفظ بمفتاح بيته أثراً لحلم ممتنع التحقيق. وعلى هذا، فالمخيمات الفلسطينية جزء من معازل (غيتوات) اصطبغت بصبغة مدينة ثابتة. ويقيم «لاجئون» في نابلس بجوار أهالي المدينة الاوائل منذ 1948. ولا حق لمن يسمون «لاجئين» في الاقتراع البلدي، ولا في تملك الارض أو بيت. وأنشئت مخيمات في ستينات القرن الماضي وسبعيناته وثمانيناته. واستجاب انشاؤها أزمات اندلعت في هذه العقود، فلجأ افغان الى باكستان حين اجتاح الاتحاد السوفياتي أفغانستان في 1979. وغداة 1975، هرب مئات آلاف اللاجئين من فيتنام ولاوس الى كمبوديا وعلى الخصوص الى تايلندا. واستقبل شمال أميركا وأوروبا 500 ألف فيتنامي. وبعد عشرة أعوام، غلقت أبواب الهجرة. وحل مليون لاجئ كمبودي في تايلندا وفيتنام، حشروا في مخيمات بعضها مسيج بأسلاك شائكة جارحة لا فرق بينها وبين معتقلات الاسرى، قرينة على نزول اللاجئين ضيوفاً غير مرحب بهم على دول وبلدان تستقبلهم على الرغم منها. وهذه المخيمات لا تزال قائمة بعد انقضاء النزاعات التي ولدتها، وكانت السبب فيها، منذ عشرات السنين. وهي حال لاجئي ماهيبا في زامبيا، وهو مخيم يعود انشاؤه الى 1971، إبان حروب الاستقلال في أنغولا. وهذا الموقع أنشأه الصليب الاحمر، ولم تغلقه السلطات الانغولية بعد، غداة انصرام 9 أعوام على توقيع منظمة «يونيتا» والحكومة الانغولية اتفاقاً طوى الحرب الاهلية. ويبلغ عدد أهل المخيم 60 ألفاً، هم مزيج من أهالي قرى متفرقة، وأحياء مدن، ومضارب موقتة في مخيمات سابقة. ونشأت عن المزيج حياة اجتماعية، وأنشطة زراعية يضطلع بها أوائل نزلاء المخيم، ومدارس صغيرة تتولى جمعية غير حكومية يسوعية التدريس فيها ورعايتها... فالناس يشعرون اليوم ان المخيم بلدهم. وفي الاثناء، نزل المخيم أنغوليون كانوا في رواندا، وبورونديون وكونغوليون. وهؤلاء هربوا من الحروب التي انفجرت حيث كانوا لجأوا قبل سنوات. ولا يرغب «أهل» مخيم ماهيبا في تركه الى بلدان اضطروا الى مغادرتها قبل عشرات الأعوام. والسمة الثانية الجديدة، منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، هي سعة هذه المخيمات وتراميها. فمنذ نهاية الحرب الباردة انفجرت نزاعات جديدة شديدة العنف، على غرار نزاع رواندا في 1994. وبعد أعمال الابادة، هرب 150 ألف رواندي الى مخيمات لاجئين في شرق الكونغو. والتسعينات هي عقد المخيمات الكبيرة، وعقد التعاطف الذي فجّرته الصور المذهلة لصفوف خيم تملأ ساحة لا حدود لها ولا نهاية. وهي عقد نمو اقتصادي ولوجيستي عظيم شهدته المنظمات الانسانية الكبرى مثل IRC (انترناشنل ريسكيو كوميشن – لجنة الاغاثة الدولية)، و «أوكسفام انترناشنل» (الرابطة الدولية)، و «سايف ذي شيلدرن» (انقذوا الاطفال) وأطباء بلا حدود. فتبلورت «حكومة غير المرغوبين الانسانية»، على ما سميتها. وعزل جزء من سكان العالم، هش وفائض، حُمل على حدة ومنفصل من عالمنا، وينظر اليه من بُعد نظرة يختلط فيها الإشفاق بالخوف والتحفظ. وهذا العالم هو عالم المخيمات الجديد. وهذه المخيمات أربعة أصناف، الصنف الاول أنشأه مهاجرون تُركوا الى أنفسهم، وتدبروا امرهم من غير مساعدة في وسط لا يرغب في استقبالهم ونزولهم بين ظهرانيه. ومثال هذا الصنف «غابة» مدينة كاليه الساحلية في فرنسا، قبل أن يخليها إريك بيسون (وزير الهجرة والهوية الوطنية) في 2009. والصنف الثاني يملأه نازحو الداخل، الهاربون من قراهم أو منطقتهم الى ملجأ آمن. وهو الاوسع انتشاراً، ويبلغ عدد المخيمات هذه 600 (والرقم هذا يعود الى 2008). ويفوق (عدد هذه المخيمات) هذا العدد اليوم، على ما أرجح. فثمة عشرات من هذا الصنف من المخيمات في شرق جمهورية الكونغو الديموقراطية، وفوق 200 في السودان، وعدد كبير في أفغانستان. وفي هايتي، غداة سنة على زلزال كانون الثاني (يناير) 2010، كان هناك 1000 مخيم ينزلها نازحون (ويتسع واحدها ل100 الى 100 ألف نازح). وتتعهد جمعيات غير حكومية معظم مخيمات هذا الصنف. والصنف الثالث هو مخيمات اللاجئين من بلد الى آخر. ويقتضي اللجوء اجتياز الحدود الفاصلة بين بلدين. وترعى الصنف الثالث هيئة دولية هي الصليب الاحمر، وتتولى «شرطة المخيمات». فالهيئة تفرض على اللاجئين موقعاً ودائرة. وتمتنع من أداء خدماتها خارجهما. وقد تنجم عن هذه تظاهرات عنيفة. ففي حزيران (يونيو) 2003، في كوناكري (غينيا)، استولى ليبيريون كانت الاممالمتحدة رفضت الاعتراف بصفتهم لاجئين – واشترطت عليهم انتقالهم الى مخيمات تبعد 600 كلم لقاء الاعتراف - على سيارة مندوب الصليب الاحمر وهو فيها. وأعقب الاستيلاء فوضى دامت أياماً، وحسمتها الشرطة الغينية. وبعدها أعلنت هيئة الصليب الاحمر أنها لن تتولى بعد اليوم حماية ليبيريي كوناكري إذا اعتقلتهم الشرطة الغينية، ولا تعترف بهم لاجئين إذا لم يمتثلوا للذهاب الى مخيم أعدّته الهيئة. ويراعي هذا الصنف من المخيمات المعيار الاممي (الذي أوجبته الاممالمتحدة). والصليب الاحمر يتولى ادارة بعضها. وثمة مئات من المخيمات تديرها جمعيات غير حكومية، وتراعي المعيار الاممي. وأحصي منها في 2008 نحو 300 مخيم، تؤوي 4 الى 5 ملايين لاجئ، ثلثاها في افريقيا، الغربية والوسطى والشرقية. وينتشر الباقي في جنوب شرقي آسيا، وآسيا الوسطى، وعلى الاخص في باكستان وإيران. وتحاول الهيئة ألا تتخطى مخيماتها العشرة آلاف لاجئ، حرصاً على الحؤول دون تفشي الاوبئة والاضطرابات. ويوهم إنشاء المخيمات في الغابات، أو في أرض خلاء يعمرها «موظفو الهيئة» بالقوة والتسيد على اللاجئين. والموظفون لا يتسترون على حلولهم «محل الحكومة»، على ما سُمعوا يقولون في مخيم «كواري»، في هايتي في كانون الثاني (يناير) 2010. وبعض مخيمات الصليب الاحمر، في تايلندا أو جنوب لبنان، تحوطها اسلاك شائكة وأبراج مراقبة وجدران. ويصدق القول فيها إنها تقيد حرية اللاجئين في الانتقال والتجوال. وهي تشترك، من هذا الباب، في سمة واحدة مع صنف المخيمات الرابع. فهي مخيمات احتجاز، يحتجز فيها مهاجرون «غير شرعيين»، على ما يسمون. ويعامل هؤلاء المهاجرون معاملة المعتقلين قبل أن يردوا الى بلادهم الاصلية وقبل أن تتاح لهم فرصة طلب اللجوء، على نحو ما تفعل أوستراليا في جزيرة كريسماس، أو إيطاليا في مركز لابيدوزا. وهذه المراكز تسري عليها سلطة الشرطة الوطنية، وتتولى الجمعيات الانسانية وظيفة ثانوية فيها. وتتقدم مهمة الاغاثة العاجلة المهمات الاخرى. فأول ما تتولاه مخيمات اللاجئين، على أصنافها المتفرقة، هو الإطعام والعلاج. وفهم اللاجئون أن حالهم ليست موقتة وقد تدوم الى أجل غير معروف، يقتضي سنين، على خلاف ظنهم في أول أمرهم. ولذا، يبادرون الى تدبير شؤونهم في ضوء فهمهم حالهم. ومثال ذلك أسر يعمد آباؤها الأرامل الى الاستقرار مع أولادهم، وتُنشأ مدارس لمحو الأمية أو لتلقين تعليم ابتدائي. وتكثر الولادات في مخيمات تضج بالحياة. وإذا توافرت الارض، بادر اللاجئون الى زراعتها، واستنباتها ما يقتاتون به، ويبيعون ما يفيض عن استهلاكهم مثل البندورة (الطماطم) والبصل، على خلاف الرز. وبعض اللاجئين الى ماهيبا يبيعون الرز والفاكهة والخضار من تجار يأتون من خارج المخيم ويقترحون سلعهم على أهله ولاجئيه. وبعض اللاجئين يعملون في رعاية الجمعيات غير الحكومية. فيشتركون في حفر الآبار، وتعبيد الطرق بعد شقها، وفي العناية بالأجهزة الصحية وسوق السيارات... وهذه الأعمال من أبرز موارد اللاجئين، ولعلها قاعدة اقتصاد المخيمات المستقرة. ومن يتولونها هم، عادة، من أصحاب المكانة والنفوذ في جماعاتهم، ويتكلمون الانكليزية. وعلى هذا، يقوم اقتصاد المخيمات على تداول النقد، الى قيامه على توفير المأوى والسلع الاولى (الطحين والزيت والرز والملح) من غير لقاء أو مقابل. والباقي ينبغي شراؤه في مقابل ثمن، وفي ما يشبه سوقاً ضيقة تحتل على الدوام مدخل المخيم. وتترتب على الحال هذه فروق اجتماعية، تنشأ عنها نزاعات هي نواة حياة سياسية. وفي المضمار السياسي هذا تعلو اصوات تندد بالجمعيات غير الحكومية والاممالمتحدة والبيض... وفي بعض مخيمات أفريقيا الغربية (ليبيريا وغينيا وسييراليون) يضطلع قسس مسموعو الكلمة بأدوار سياسية قيادية. والحياة في المخيمات يلابسها العنف الناجم عن الاحتجاز. فالنساء قد يغتصبن حين يعملن خارج المخيمات، ويسعين في جمع الحطب بجوارها. وبعض العنف مصدره المراتب، مثل إغارة جماعات ترى نفسها أعلى مكانة ومرتبة على ضعفاء من جماعات أدنى مرتبة، على ما يحصل في مخيم دادعاب في كينيا. وقد يكون المخيم محطة على طريق الهجرة. فبعض اللاجئين في مخيم ماهيبا في زامبيا، انتهى بهم المطاف بعد 30 عاماً من اللجوء، حين وقع اتفاق سلام بين أنغولا وزامبيا في 2002، الى الاستقرار مهاجرين حيث كانوا لاجئين. * مدير دراسات أناسية في معهد الدراسات العليا الفرنسي للعلوم الاجتماعية ومنسق برنامج «ملاجئ» الدولي، عن «ليستوار» الفرنسية، 6/2011، اعداد منال نحاس