«اليتيمة» هذا ما أطلقه أهل مكة على ديارهم في «يوم عرفة»، لرحيل رجالها عنها مبتغين إحدى الحسنيين إما للحج أو لخدمة الحجيج، حتى تصبح صبيحة يوم عرفة ومكة «خاوية على عروشها» من رجالها، إذ لا يبقى في ديارها إلا المتخلفون عن الحج ليطلق عليهم لقب «الخليف». فما إن تشرق شمس عرفة بمكة، إلا وسيداتها يشرعن في بدء طقوسهن اللائي اعتدن أن يمارسنها في مثل هذا اليوم، مبتدئات ب «القيس»، إذ يرتدين فيها ملابس أزواجهن أو آبائهن أو إخوانهن، واضعات على رؤوسهن إما العمامة أو الأشمغة، متخذات من سواد الفحم «شنبا»، حتى يصبحن «أشباه الرجال» لا «شقائقهم». وتمضي السيدات مجتمعات ك «أسراب» في «أزقة» مكة لحراستها من اللصوص، حاملات في أيديهن سلاح «الشوبة» - عصا سميكة وطويلة - ليرهبن بها من يعترض طريقهن. ولا يسلم الرجل «الخليف» من سلاطة نساء مكة، واللائي يستنكرن وجوده بينهن ويعاملنه وكأنه من الثلاثة الذين خلفوا، مرددات بعض الأهازيج ك «ياقيسنا ياقيس.. الناس حجوا.. وأنت قاعد ليش؟!.. الليلة نفرة.. قوم أذبحلك تيس.. قوم روح لبيتك.. قوم أخبز عيش..»، فما إن ينتهين من الأهزوجة، إلا وقد ضاقت على «الخليف» الأرض بما رحبت، وضاقت عليه نفسه، متمنياً لو أنه رحل بأدراجه إلى الحج. هذا ما ذكرته فوزية صفطة عن «الخليف» و«القيس» ل «الحياة» حينما «نوخت ركاب فكرها عند داعيها»، مخالفة عمرها البالغ عقده السابع راجعة به سالف أعوام، وبريق الحنين يلوح في عينيها، مضيفة أيضاً الجمعات المنزلية التي يقمن بها بعد جولاتهن في الأزقة لعمل طبق «المعمول» حيث يقمن بعجنه وحشوه بالتمر، ثم خبزه ليكون جاهزاً ليوم عيد الأضحى المبارك، كما يقمن بعمل طبق «الغريبة» الذي يعمل بدقيق الحمص ويخبز على شكل قطع كعك. وأكدت فوزية صفطة على أن «الخليف» و«القيس» كانت من العادات الجميلة التي اندثرت منذ أكثر من 50 عاماً بسبب التطور الذي نزع الكثير من العادات، منوهة بأن هذه العادة قد ألبست ثوباً جديداً، فبعض سيدات الأسر في العصر الحالي قد يجتمعن في منزل واحد فترة الحج لانشغال رجالهن عنهن، مطلقات على أيام الحج ب «الخليف»، للتسلية والتعاون على عمل «المعمول» و«الغريبة».