«إنني حين ولدت نظر والدي لتقلب لون عيني من الأسود إلى الأبيض، ومن يومها تحولت العلاقة بيني وبينه إلى علاقة صامتة، أشعر به يلحظني ويتابعني من دون أن يتدخل في تصرفاتي، والدي لم ينسج لنفسه حلماً وردياً يعش به ويتطلع إليه، كنت في قلب لوحة الحياة وكان والدي خارج لوحتي التي أرسمها». ما أن طالعني هذا المقطع على الغلاف الخارجي لرواية «نزل الظلام» التي فازت أخيراً بجائزة الأمير سعود بن عبدالمحسن للرواية التي يشرف عليها نادي حائل الأدبي، حتى شعرت أنني في سبيل الدخول إلى كتابة مميزة، قرأت لماجد الجارد من قبل بعض المطالعات الأدبية وبعض القصص القصيرة، وتناقشنا حول الكثير من الأعمال الأدبية وكتبت معلقاً على مدونته الإلكترونية الجميلة الموسومة ب «ضوء يعبر»، مستحضراً بيتاً شهيراً لنزار قباني يخاطب به طه حسين فيقول: ارم نظارتيك ما أنت أعمى إنما نحن جوقة العميان»، وهكذا بدأت أطالع «نزل الظلام» بكل ما لديّ حول كاتبها وحول موضوعها، رواية ربما تكون الأولى محلياً التي يكتبها رجل كفيف، ورواية ربما تكون الأولى محلياً التي تتناول موضوع العمى. وما أن بدأت أغوص في صفحات الرواية حتى شعرت بأن ماجد كسب رهان عمله الأول بجدارة، وإذ كانوا يقولون دائماً إن الرواية الأولى لأي كاتب لابد أن تحمل شيئاً من سيرته الذاتية فإنني أقول مع نزل الظلام لا بأس في هذا، لأن القارئ سيكتشف وهو يطالع العمل أن الكاتب قدم حالة أو حالات وتناول موضوعاً إنسانياً بحتاً ولم ينزلق إلى مجرد الحكي عن الذات، مع أنه كان قادراً على الاستجابة لشهوة الحكي والاسترسال، لكنه اختار بعناية الروائي الذكي أن تكون «نزل الظلام» رواية تتناول مجموعة من الشخصيات، التي يجمع بينها فقدان البصر والسكنى معاً في النزل الذي استطاع الروائي ببراعة أن يجعل منه بطلاً موازياً وحاضراً بشكل مفصلي في ثنايا الرواية. تتناول الرواية حكاية مجموعة من الأشخاص بداية بإبراهيم حيث تكتشف العائلة تدريجياً إصابته بالعمى، وتصور لنا الرواية ببراعة شديدة وقع هذا الاكتشاف على الأم تحديداً، وهي ليست بعيدة عن مشاعرها الأخاذة وهي تودع ابنها الكفيف بعد ذلك، إذ يذهب إلى نزل الظلام للدراسة والسكن فلا يعود لمنزل أبيه وأمه إلا ضيفاً أو كالضيف. تنعرج الرواية ببراعة عن حكاية إبراهيم ما أن يصل إلى النزل لنكتشف حكايات طلاب آخرين ونتعرف على تفاصيل النزل ومعلميه، إذ يبرع الكاتب في تقديم وصف جميل للكثير من الأشياء والصور والروائح، كما سنطالع الصراعات الصغيرة والطريفة التي يخوضها العمّي الصغار مع بعضهم أو مع مديري النزل، ولغة ماجد لا تخلو من سخرية جميلة وذكية. والخلاصة التي توصلت إليها بعد مطالعة العمل هي أن ماجد الجارد نجح في «نزل الظلام» كروائي قبل كل شي، لأنه استجاب في عمله لموهبة السارد فلم يحول عمله إلى مليودراما تستحلب الدموع، ولم يرتفع بصوت أبطاله ليصرخوا بعماهم ولم يستجب لحكاية السيرة الذاتية فيندفع في الكتابة عن نفسه، وإنما ترك شخصيات روايته تبدو طبيعية وحاضرة بكل ما في الإنسان من أحلام وتطلعات وبكل ما يصيبه من حزن وإحباط، فكانت «نزل الظلام» مزيجاً من حوادث أشبه بمقالب تستبطن السخرية من الألم لا البكاء عليه. ولهذا كان العميان في الرواية يرون الكثير مما قد لا نراه.