الرواية مرآة أدبية للمجتمع غالبًا؛ إذ هي قراءةُ ظاهرِه، وكشف مستورِه، وملامسة جراحِه، ورصد حكاياتِه الظاهرةِ والباطنة، ورواية “نزل الظلام”(1) للروائي ماجد الجارد، سارت وفق ذلك، وإن كانت قد اختطت لها فرادة في تعاطيها لموضوع نادرًا ما يتداوله الروائيون وهو الإعاقة البصرية “العمى” على أساس أنه المحور الرئيس للعمل الروائي، لذا فقد سارت الرواية من خلال تصوير معاناة الكفيف مذ ولادته، حتى قرار أسرته إلحاقه بالنزل (معاهد المكفوفين فيما يبدو) ثم معاناته بعد ذلك، ومواقفه هناك. تسير الرواية من خلال رصد يبتعد عن التراكمية في السرد والأحداث، إلى تشكيل مجموعة من الصور التي تمثل بدايات بعض النماذج التي تأتي من الأسرة، لتعيش حياتها في النزل. لقد تحركت الرواية من خلال رسم المكان والزمان والشخصيات التي تتمحور جميعًا حول وصف ومعاناة واحدة، هي العمى، وإن كانت منذ البدء قد حاولت أن تنتصر للأعمى، وتدين كل الممارسات التي تحاول تهميشه أو الإساءة إليه، من خلال ما أثارته في نفس المتلقي من تطورات وعلاقات تلاحمية أو تنافرية، وعوامل جاذبة للمتلقي تجاه بؤرة النص الأدبي، وفكرته الأساس، وتصاعد الأحداث وما يربط بينهما، ويسهم في بروز الفكرة والوصول بالمتلقي إلى ما وراء الكلمة ما وراء اللفظ، واقتناص المعنى. تحاول الرواية بدءًا أن تصنع عالمها الخاص المنتصر للمهمش اجتماعيًّا، من خلال الغلاف الذي يبدو فيه ثلاثة أشخاص ينظرون إلى القمر في ليلة تمامه، من خلال ظلام دامس يحيط بهم، وهو ما يجعلنا نعقد مقارنة بين التشكيل الفني وأحداث الرواية، إذ يمكن قراءة ذلك من خلال غياب “الآخر” المبصر، الذي أسهم في إحكام سجنه على مكفوفي البصر، من خلال تعامله القاسي في النزل، وهو ما صوره الغلاف ظلامًا يحيط بهم، وهم يعلنون أن هناك ضوءًا بصيرًا بهم، ورحيمًا يأتي من السماء بعد أن قست عليهم الأرض، عبر استحضار الضوء القادم من القمر، إنه الضوء الذي يقول لهم ضمنًا في السماء متسع ورحمة هي أبقى، كما يمكن قراءته من خلال تأكيد أن هناك غاية وهدفًا ساميًا يطمحون إليه، إنهم يهدفون إلى الوصول إلى أكثر وأسمى مما يعتقده المبصرون. ثم إن العنوان “نزل الظلام” الذي يشي بانتفاء النور، ويقود ذهن المتلقي إلى توقع الكآبة، والظلم، والنفي، والسكون، والسوء من هذا النزل، وأيضًا يمد إلى المتلقي جسرًا للوصول إلى نوعية “النزلاء” وهم الآخرون أو الجماعة المهمشة في الرواية، وربما في الحياة. إنّ عوالم الأعمى مجهولة لا يستطيع جلبها واستحضارها -غالبًا- إلّا من عاش الظلام وهو عالم يضجّ بالحواس المتعاضدة عدا البصر، وأبطال هذه الرواية لا يختلفون عن غيرهم في شيء إلّا أنّ جزءًا من طفولتهم صودر، وجزءًا من أحلامهم تمّ وأده، فباتوا أمام مستقبل غامض مجهول!. لذلك؛ تجدهم في مرحلة الطفولة أطفالًا أشقياء: في مقالبهم وقلقهم ولعبهم، كسائر الأطفال، وفي مرحلة الشباب وهي مرحلة تكوين الشخصية التي غالبًا ما تكره التقييد بأغلال القوانين الصارمة التي فرضتها عليهم ظروفهم الخاصة، فتراهم يتوقون إلى ما يحرم منه فاقد تلك الحاسة من لحظات المرح والخروج والثقافة عبر التلفاز، ولقاء الطالبات العابر، والتمرد على ما يكبح جماح مراهقتهم وحريتهم من دون وجه حق. ولا شكّ في أنّ هذه المرحلة يمرّ بها المراهقون عامةً. وعلى الرغم من حرمانهم البصر إلا أنّ ذلك لا يعني حرمانهم من حقوقهم ومصادرة تفاصيل صغيرةً من حياتهم. إنهم يريدون أن يعيشوا حلاوة تجربتها، لذلك لم تعجبهم حياة النزل فسعوا إلى تغييرها والتمرّد عليها، هم يعرفون نقطة ضعفهم إلا أنهم لم يدفنوا أرواحهم، ولم يقولبوا حياتهم وفق أنظمة بشرية جائرة، فهم يدركون جيدًا أنّ فقدهم البصر ليس مرحلة مرضية ستنتهي، بل هي حياة دائمة وإن كانت لا تشبه حياة الآخرين الملونة الزاهية، لذا من حقهم أن يمارسوها بشكل طبيعي، حتى وإن كانت ألوانها ضبابية قاتمة، فليتكيف النزل وأنظمته مع ميولهم ورغباتهم، وليمنحهم حياة إنسانية لائقة بهم. هؤلاء “الآخرون” إبراهيم وخالد ومحمد الشخصيات المستديرة (1) -كما قال عنها فورستر- لأنّ كلًا منهم مثيرٌ للتساؤل والقلق، وكلٌّ منهم كان مدهشًا، وذا شأن في مكانه وزمانه. إنّهم مجموعة من الفتية الذين وحّدتهم الإعاقة، ومع ذلك فهي لم تعقهم عن ممارسة حياتهم وأحلامهم، على الرغم من تهميشهم وتخبط أياديهم العمياء، وفقدهم نعمة التمتع بما هو مرئي، فهم -كما هو واضح- شخصيات جادةٌ حالمةٌٌ قادرةٌ ثائرةٌ ومتصالحة، ليست ناقمةً، لم يطالبوا أن يدخلوا معترك الحياة التي يعيشها المبصرون بقدر ما كانوا يحلمون أحلامًا بسيطة، ويتضح ذلك من خلال محاولاتهم سرقة لحظات تتشابه مع الأطفال الآخرين، وحنينهم للأهل وخاصة للأم، وللقرية، واللعب مع أبناء الجيران. من أحلامهم الكبرى مثلًا رؤية التلفاز القادر -باعتقادهم- على تجسيد الصورة ليتحسسوها بأيديهم ويتعرفوا عليها! ورغم ألم الحلم وقسوة تأمله، فقد كانوا ساخرين مرحين، في الوقت الذي كانوا فيه جادين، حالمين، عازمين. وتأتي رؤيتهم للمبصرين من خلال عدة مستويات، بيد أن ما يمكن ملاحظته أن هناك فارقًا نوعيًا لدى “الأعمى” في مواجهة المبصر، حيث يمكن أن نلحظ أن الأنثى كانت “الآخر” الذي أنست الذات الكفيفة إليه فهو في الرواية “الأم” التي تسبح في معاناتها وألمها مع ابنها المكفوف من لحظة الشعور بضعف أو فقد البصر، وهي التي تغرق في دموعها مودعة إياه وهو ينطلق إلى معهد المكفوفين غائبًا عنها، وهي التي تحضر إليه في خواطره وخياله.. إنها الأم التي تعاني ما تعاني، وصغيرها مشدود إلى خصرها يقول محمد مسترجعًا ذكرياته عن أمه حين طفولته: “تلقاني حضن أمي وحجرها الدافئ، تحملني أينما تذهب وتشدني على خصرها بطرف شالتها السوداء العبقة برائحتها”(2)، وإبراهيم يقول عن أمه: “تمهدني حجرها وتسعفني صدرها لأروي عروقي من قلبها النابض أمومة، ونقاءً، وطهرًا... الرضاعة تمزج روحينا في جوهر لا يمكن فصله”.(1) والأنثى تحاول مساعدة “الأعمى” في شوارع مكة، حيث طالبات الثانوي يحذرنهم من الوقوع أثناء سيرهم إلى النزل، في حين كان الآخر “الرجل” جامدًا، فهو الأب الذي يعود بطفله من العيادة بعد أن تأكد من “كف بصره” وهو يحمل همًّا ثقيلًا ويصف حالة طفله ب “المصيبة”(2)، حينها تحولت العلاقة بينه وبين صغيره إلى علاقة صامتة (3). وهو الآخر المرتشي “الطبيب” في الوحدة الصحية (قال الدكتور: إذًا أعطني النقود لأطمئن فنقدته بورقة خمسين ريالًا) (4). وهو الذي يئد الطفولة في النزل بكل عنف (5)، وهو المعلم الذي يهزأ من نظافة ملابسهم التي كانت لا تخلو من بعض البقع، وهو المدير والعميد المتسلطان، هؤلاء هم الذين أسهموا في معاناة الكفيف، بل إن إبراهيم أحد أبطال الرواية يقولها صراحة “ليت القائمين على السكن نساء” (6). لقد تمحور الآخر “الأعمى” حول ذاته، ورأى أن “المبصر” الذكر لم تكن مواقفه إلا تكريسًا للجمود والقسوة وضياع الأمانة، فهل كان كف البصر عجزًا إنسانيًّا تعامل معه الذكر بقسوته التي يتعامل بها مع الأنثى؟ هل كان “الأعمى” يرى في الأنثى خلاصًا ويرى في تصرفاتها معه أنموذجًا يمكنه من أن يعيش حياته في حب وسلام وأمان. إن الرواية تؤكد من خلال هذه الشخصيات حضورًا فاعلًا للأنثى، بيد أن شخصية “الأعمى” لا تقف عاجزة عن مواجهة المتسلط، فقد انتقمت منه روائيًّا وأسقطته كثيرًا، تعاملت معه بذكاء، وفضحت أساليبه وألاعيبه، كشفته وهو يمارس دور الحيلة، وهو يمثل أعلى سلطة في النزل، إن صوت (الأعمى) البصير حقًّا، يفضح المبصر، فيرتفع النداء وسط ساحة النزل؛ ليعلن أن المدير في الساحة، بعد أن شم رائحة عطره، وهو الذي اندس بهدوء وسط الجموع، وفضحت ممارسات النصب والإهمال، وكأنها تعلن أن العجز الحقيقي هو الغباء الذي يسقط الآخر، وهو ما تكشفه جماعة “المكفوفين” في أكثر من موضع، بل إنها لتصل إلى التلاعب عليه، وتدبير الحيل الكبرى لفضح هذا الغباء المستتر بالبصر، إنها تصنع الخدعة حين تحضر تقنيًا ما تريد سماعه من مسلسلات وبرامج إذاعية، وتمارس هذا الدور منتصرة على جبروت المبصر الذي يبدو بكل إمكاناته عاجزًا، لقد كان العمى ينتصر روائيًّا على الشخصيات المتسلطة، في حين كان يرى في بعضها صورة متميزة، وبخاصة حين تتعامل مع الكفيف تعاملًا إنسانيًّا، فالعم “دويخل” -مثلًا- صاحب الدكان الذي يقع خارج النزل كان رجلًا عطوفًا ومتسامحًا معهم بحيث “يبتسم ويفوتها للعمي عندما يسرقون ببراءة متناهية” (1). لقد صنعت الرواية عالم الذات الذي يضيق تارة حتى يمثل شخصية الكفيف عبر كثير من المونولوج الذي وزعته الرواية على شخصياتها، ثم كانت الذات الكفيفة التي اتحدت في آمالها وآلامها؛ لتشكل عالمها الجديد، من خلال نجاحاته الكثيرة، وإخفاقاته التي تعاملت معها الذات الكفيفة بروح وثابة ساخرة، كما أنها فضحت الآخر المبصر، الذي سخر منها، وقلّل من إمكاناتها، وحرمها حقوقها المشروعة، في الوقت الذي انتصرت فيه للمبصر، الذي تعاطف معها، فبادلته حبًّا بحب، وعطفًا بعطف، حيث كانت الرواية ميدانًا، لإعلان تلك الهزائم والانتصارات. كان الروائي فيما يبدو واقعًا تحت إلحاح المضمون والرغبة في نقل الفكرة، وهو ما جعل البنية الروائية لا تجنح إلى البناء الروائي المتصاعد، حيث كان إلحاح تجارب الأبطال والحرص على نقلها واضحًا في الرواية، بل أحسب أن الراوي كان مستعجلًا إلى حد ما في ذلك، وربما كان من المهم -من وجهة نظري- أن يلاحظ هذه الوتيرة المتسارعة في السرد، كما أحسب أنه كان بحاجة إلى بناء الأحداث، وتناميها من خلال التركيز على استحداث الحبكة الإنسانية التي سيجدها حتمًا في قضية مثل هذه القضية المميزة. لقد كانت تجربة “الأيام” حاضرة هنا؛ فهناك تشابه في موقف الأم من صغيرها الأعمى وفي خوف “الأعمى” من المساء وحلول الظلام (1)، ولعلنا نعزو ذلك إلى تقاطع ماجد الجارد وطه حسين في “العمى”. كما أنهما يتقاطعان في الإبداع. وقد شهد تاريخ الأدب العربي والعالمي نماذج من المبدعين شعراء وكتاب وفنانين على سبيل المثال: بشّار بن برد، أبوالعلاء المعري، طه حسين، عبدالله البردوني، سيد مكاوي، هيلن كيلر، وغيرهم كثير ممن أبرزوا بالملموس، وقالوا الكلمة الفصل بتجاربهم ومنجزاتهم. وختامًا، لا بد من التذكير أن الواقع يحمل حبكات مأساوية مستعصية على السرد، والكاتب هنا يمتطي لغة بسيطة منسابة ويحاول تفكيك عبثية الواقع ليكشف لنا ما يدور خلف السور، حياة تلك الجماعة المهمشة، ويجعلنا نشاركهم النزل بظلامه وظلمه وفي نهاية الرواية لم تنته القصة، بل ربما بدأت قصص أخرى لهؤلاء المبصرين حقًّا...! (1) ماجد سليمان الجارد، رواية: نزل الظلام، الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2010م. (1) أركان القصة (أوجه القصة) إدوارد مورجان فورستر، مكتبة الأسرة، دار الكرنك 2001م، سلسلة الألف كتاب، العدد 306. (2) رواية “نزل الظلام” ص 66. (1) المصدر نفسه، ص 11. (2) المصدر نفسه، ص 13. (3) المصدر نفسه، ص 66. (4) المصدر نفسه، ص 57. (5) المصدر نفسه، ص 48،73. (6) المصدر نفسه، ص 33. (1) نزل الظلام، ص 54. (1) طه حسين، الأيّام، القاهرة، دار المعارف، ط3، 2007م، الجزء الأول، ص 6 + ص 9. (1) ماجد الجارد “نزل الظلام” ص 66، ص 11