حين يتصبّب العرق من جباههم ويلهثون في شهيقهم وزفيرهم وتجحظ عيونهم، فاعلم أنهم بصحبة أبي الفنون في مساحة صغيرة كلّها صدق وحيوية. وبين هذا وذاك، سيكون للمسرحية متفرجون صفقوا كثيراً حين أُسدلت الستارة على عرض أحبّوه، هاربين من تلفزيوناتهم. عُرضت مسرحية «الطين» في «مسرح دبي الاجتماعي» في «مول الإمارات»، ضمن الدورة السادسة لمهرجان دبي لمسرح الشباب، والذي أمِل القائمون عليه بأن تتطرق عروضه إلى قضايا الشباب الخليجي وتلامس أحوالهم ونفسياتهم. وسنة بعد أخرى، يتطور المهرجان ويجدّد أفكاره، ليتخذ هذا العرض أبعاده النفسية والفكرية وحتى التشاؤمية المعقدة، لكنه يفرض نفسه كحالة شبابية في إطار فلسفي، من خلال حكاية فتاة تواقة إلى العيش كغيرها من بنات جيلها، فتاة خليجية لم تر أو تسمع الحياة سوى بعيني والدها وأذُنيه، لتبدو ميّالة إلى الأسلوب المونودرامي. في نهاية العرض، تصرخ الفتاة: «أنا ريّال (رجل) البيت...»، لتفجّر بذلك كبتها الذي حبسها فيه والدها سنوات، قبل أن يكسر جرّتي نقود جمعها طوال عقود لزواجها. تبكي وتضحك وتركض وتمشي وتتكلم وتصمت، وهو يرفض ويغضب ويمانع. تلك صراعات باتت معهودة في الدراما الخليجية عموماً، لكنها هنا بنكهة مسرحية مختلفة، أدواتها طين ومنتجات فخارية وقطع ديكور لا تقلّ بطولة عن شخصيات العرض، بل أدخلت رمزية إلى حياة قد تبدو بسيطة.َ من عمق دلالات الطين وعلاقته الجدلية بالإنسان، ومن نصّ مستوحى من الإنسان العائد إلى التراب، تتجسد حكاية رجل عجوز وابنته، يعيشان معزولَين عن الواقع والحضارة لينهمكا في صناعة الفخاريات في ورشة بلا أي عنصر إنساني سواهما، تغيب عنها العواطف الأبوية في مواجهة ابنة ديناميكية تعشق الحرية وتذكّر بنساء فيديريكو لوركا. هو إذاً الطين الذي نحن منه وإليه نعود، وهما شخصيتان تعزف خلفهما جوقة إيقاعية أدخلت تشويشاً على الكلام، واستعيض عن الموسيقى أحياناً بالمؤثرات الصوتية الحية. يحدث خلط في بناء الشخصية حين تتغير مواقف الفتاة من والدها عند موته. لكن مؤلف النص، محمد صالح، يُعيد المسألة إلى الاتفاق والتفاهم، مع صديقه المخرج فيصل العلي، على اللعب بالبناء الدرامي كي يلائم مدة العرض، بحسب شروط المهرجان، مع إجراء بعض التغييرات. يقول صالح ل «الحياة»: «تجسد المسرحية صراع الجديد والقديم، عبر أدوات كالفخاريات تكشف طريقة عيش الإنسان، لتبحث في صراع زمنَين، الماضي والحاضر، مع استشراف المستقبل أيضاً، فضلاً عن غوصها في عمق الأمكنة وكشفها بعض المهن التي كانت تمارَس وقتها، قبل أن تتفجر ثورة التمدن». والمخرج فيصل العلي، حين اختار هذا النصّ وقرر الاشتغال عليه أربعة أشهر، كان يدرك أن شخصيات ذات تركيب معقد ستواجهه: «واجهتني صعوبات تمثلت في الإشراف على الممثلين وتوزيع الأوامر الحركية، إضافة إلى شرط التكثيف في العرض المسرحي الذي لا تتجاوز مدته الأربعين دقيقة». وذلك دون أن يعلم أن عرضه هذا سيفوز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في ختام المهرجان. لكنه يستطرد قائلاً: «حتى إن اللعب على الأزمنة بدا مختلفاً، وكذلك موضوع الإضاءة، وفي النهاية، استوجبت قراءتي للنص الكثير من الخيال». وكان اللعب على العناصر السينوغرافية واضحاً للغاية، كون طبيعة العرض نبعت أساساً من لون التراب، وجاءت الإضاءة لتضيف إلى هذه الألوان معاني غير مرئية بالضرورة، كالغبار المتطاير وألوان الملابس، إلا من خلال فترات الصمت الكثيرة التي أضافت عناصر إيجابية إلى العرض، في حين تزخر غالبية العروض بحوار مكثّف بلا مساحات صمت «يتنفّس» فيها. أنتجت جمعية الشارقة للفنون الشعبية والمسرح هذه المسرحية، ومثّل فيها المخرج نفسه مبدعاً في أدائه شخصية «المجهد»، إضافة إلى الممثلة ريم الفيصل التي وافق أداؤها بين العصرَين، السالف والحالي، فتمكنت لغة جسدها ونبرات صوتها من إضافة ديناميكية وإثارة. وساعدتها إكسسواراتها في دورها المتعِب. وكالعادة في العديد من العروض الشبابية الخليجية، حاول العرض الحفاظ على الأصول، وفي الوقت نفسه التنفيس عن هموم الشباب، بالتناغم مع الدور اللافت للجوقة المؤلّفة من سليمان عباس وخليفة البحري وفارس الجداوي وصالح محمد الذين اتخذوا من الفخاريات أدوات موسيقية لهم.