لا يختلف إسرائيليان على أن الطائرة من دون طيار التي حلقت طيلة عشرين دقيقة في الأجواء الإسرائيلية ووصلت إلى بعد ثلاثين كيلومتراً من مفاعل ديمونة، إنما تشكل تحدياً جوياً جديداً لإسرائيل يغيِّر قواعد اللعبة الحربية التي ترسمها القيادة العسكرية وتروج لها في حملة تهديداتها واستعداداتها لما أطلق عليها البعض «حرب لبنان الثالثة». إسرائيل الرسمية تحفظت عن الرد، واكتفى رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو بالقول إن بلاده تدرك كيف تدافع عن أمنها جواً وبراً وبحراً. أما الجيش، فاقتصر تعليقه المقتضب على تبجيل سلاح الجو بنجاحه في إسقاط الطائرة عبر ثلاث مراحل، هي اكتشاف الطائرة قبل أن تدخل سماء إسرائيل، ثم مرافقتها ومراقبتها في أثناء مواصلة طيرانها، ومن ثم إسقاطها في منطقة مفتوحة خالية من السكان. لكن هذا النجاح لم يُقنع الكثيرين، والأجواء التي سادت نقاش الخبراء الأمنيين والعسكريين الذين انشغلوا في محاولة فهم أهداف هذه الطائرة وما تحمله من رسائل، لم تُخْفِ ذلك القلق الإسرائيلي من المستقبل، لكن المؤكد هو أن إطلاق الطائرة يحمل اكثر من رسالة قَصَدَ مطلقوها توجيهها، وهم -وفق إسرائيل- «حزب الله» وإيران، والرسالة الأقوى هي أن قدرات «حزب الله» بدأت بتجاوز القدرات الصاروخية التي تعتقدها إسرائيل وتتحدث عنها تقاريرها الاستخبارية والعسكرية منذ سنتين على الأقل، فقد كشف «حزب الله» عن بعض مفاجآته الجوية التي لطالما هدد بها أمينه العام السيد حسن نصر الله، وحملت الطائرة رسالة تحذير للإسرائيليين من أن الحزب ليس فقط قادراً، عبر ترسانته الصاروخية ذات القدرات العالية، على تهديد كل منطقة في إسرائيل، من الشمال وحتى الجنوب، بل أنه بات يملك قدرات جوية أيضاً، والطائرة من دون طيار هي الوجبة الأولى من المفاجآت التي قد يواجهها الجيش الإسرائيلي إذا ما وقعت بالفعل حرب لبنان الثالثة، كما هي توقعات بعض العسكريين الإسرائيليين. في هذا الجانب من الرسالة، تخشى إسرائيل تكرار مفاجأة سفينة «حانيت» في حرب تموز، التي تم تفجيرها بصاروخ بحري، وذلك بتنفيذ مفاجأة جوية يكون فيها «حزب الله» قادراً على إسقاط طائرات إسرائيلية. والخطر الأكبر الذي يخشاه الإسرائيليون، هو إسقاط الطائرات في الأراضي اللبنانية خلال المعركة، وهنا يكمن التحدي الكبير أمام سلاح الجو الإسرائيلي. وفي هذا الجانب، يقول مدير مركز الحوار الإستراتيجي والخبير العسكري روبين بدهتسهور حول هذه المفاجآت الجوية: «إن وصول هذه الطائرة يؤكد امتلاك «حزب الله» تكنولوجيا متطورة لم نعرفها من قبل، فقد سبق أن اخترقت طائرات من دون طيار الأجواء الإسرائيلية، وبعضها عاد من دون أن نتمكن من إسقاطه، لكن اليوم، وبعد وصول الطائرة من دون طيار إلى عمق الأجواء الإسرائيلية، اختلف الوضع، فصحيح أن «حزب الله» لم يصل بعد إلى التكنولوجيا التي تساعده على صناعة طائرة من دون طيار من هذا النوع، وصحيح أيضاً أنه لا يملك القدرة الذاتية على تسييرها وفق مسار دقيق يتضمن أهدافاً من شأن الوصول إليها المس بمنشآت إستراتيجية وحساسة لإسرائيل، لكن صحيح أيضاً أن «حزب الله» يمكنه أن يحقق كل هذا بدعم إيران، التي تزوده بهذه النوعية من الطائرات. إن قدرة «حزب الله» على إسقاط طائرات إسرائيلية، وخصوصاً في الأراضي اللبنانية، هو خطر يجب أن يقلقنا، يقول بدهتسهور، الذي كان اكثر الإسرائيليين وضوحاً في موقفه من هذه الطائرة. أما الجانب الذي لم يناقشه الإسرائيليون، فهو الطريقة التي تم فيها تسيير الطائرة، التي يرى بدهتسهور أهمية كبيرة في البحث لأجل معرفتها، ويقول: «هناك طريقتان قد يكون استخدمهما «حزب الله»، الأولى بتسييرها عبر جهاز «جي. بي. أس.» يجعل الطائرة تطير لوحدها وفق نظام ذاتي محدد، وهذه الطريقة هي الأقل مدعاة للقلق. أما الطريقة الثانية المحتملة، فهي أن تكون إيران وصلت إلى قدرات تكنولوجية عالية تمكِّنها من إطلاق مثل هذه الطائرة وتسييرها عبر الأقمار الاصطناعية، وهذا يُعتبر أكثر السيناريوات خطراً، وهو الذي ترجحه إسرائيل، ومن شأنه أن يحسم في كسر قواعد اللعبة الحربية الإسرائيلية في المنطقة، بحسب بدهتسهور. الرسالة الثانية التي تحملها الطائرة من دون طيار، هي أن ما يحق لإسرائيل يحق لغيرها أيضاً، فإعلان الإسرائيليين عن حقهم في استمرار التحليق فوق الأراضي اللبنانية والتقاط صور تضمن لهم سيطرة استخبارية على الوضع في جنوب لبنان، يعطي الحق أيضاً للبنان ول «حزب الله» بأن تحلق طائراته في أجواء إسرائيل. وفي هذا الجانب يقول الخبير في شؤون الشرق الأوسط أيال زيسر، إن الطيران الإسرائيلي يحلق في الأجواء اللبنانية يومياً لمدة ثلاث أو أربع ساعات ويقوم بمهمات استخبارية من دون اعتراض أحد، وهو عمل يعطي الحق ل «حزب الله» أيضاً أن يفعل ذلك، وهذا ما قد يكون حسن نصر الله أراد إبلاغه لإسرائيل، وفق زيسر. وأما الرسالة الثالثة التي يراها زيسر في تأكيد «حزب الله» مشاركته قواعد اللعبة: «القدرة على المواجهة والتهديد من دون تصعيد التوتر». ويتفق زيسر وبدهتسهور على أن «حزب الله» ومعه إيران أدركا أن إسرائيل لن ترد على لبنان لمجرد وصول هذه الطائرة، لأن أي رد سيعني إشعال الحرب، وهذا جزء من قواعد اللعبة، فقد وصلت الرسالة بقوة مع الحفاظ على عدم التصعيد». مراقبة الطائرة تقرير الجيش الإسرائيلي يؤكد أن أجهزة الرادار والمراقبة التقطت الطائرة قبل عشرين دقيقة من إسقاطها، في الوقت الذي كانت تحلق فوق البحر، وأن عدم إسقاطها منذ اللحظة الأولى، وفق هذه التقارير، جاء لضمان ألاّ يحدث الإسقاط في منطقة مأهولة، ما يهدد مواطنيها بالخطر ويُفقدها امكانية حصول إسرائيل على شظاياها لفحصها ومن ثم معرفة نوعيتها ومدى تطورها وصانعيها. لكن أسئلة عديدة تطرح لا يُمكن أصحاب هذه الرواية الرد عليها، وفي مركزها: ما الذي أكّد لإسرائيل أن الطائرة لا تحمل متفجرات، وبالتالي أمكن الانتظار عشرين دقيقة مع خطر أن يتم تفجير الطائرة وهي مفخخة، ما يلحق أضراراً فادحة؟ بدهتسهور اختار الرد على هذه الرواية بالقول: «أنا لا أقبض مثل هذه الرواية». وطرح المخاطر التي يمكن أن تُلحقها الطائرة خلال عشرين دقيقة من تحليقها في الأجواء الإسرائيلية إذا ما كانت تحمل متفجرات، مشككاً في رواية الجيش، ومتسائلاً من أي نقطة اكتشفت إسرائيل الطائرة؟ وهل تم اكتشافها منذ إطلاقها؟ وكيف يمكن السماح لها بالتحليق عشرين دقيقة ولا احد يعرف أهدافها؟ وكيف قرر الجيش أن أهدافها ليست خطيرة، وبأنها لا تحمل متفجرات، ولم تكن في طريقها لتنفيذ عملية انتحارية؟ وهل تمت بالفعل مراقبتها طوال هذا الوقت؟ أسئلة كثيرة طُرحت، لكن بدهتسهور حسم موقفه برفض حديث الجيش عن نجاح سلاح الجو في هذه العملية، وقال: «الواضح والمؤكد أنه لا يمكن السماح لطائرة عدوة بالتحليق فترة طويلة، بل كان يجب إسقاطها في البحر». وانطلاقاً من هذه التساؤلات، ظهر القلق الإسرائيلي الأكبر في أن تتعرض إسرائيل لتحليق عدد من الطائرات في آن واحد وبعضها يحمل متفجرات، من دون أن تقدر منظومة الدفاع على إسقاطها جميعاً. شكلت عملية إرسال الطائرة إنذاراً دفع إلى اتخاذ إجراءات جديدة لمواجهة هذا التهديد المفاجئ، بتعزيز قدرات الرصد والمراقبة، فنصبت بطارية صاروخ أرض جو أميركية من طراز «باتريوت»، تشتمل على منظومة الإنذار المبكر، في منطقة حيفا عند قمم جبال الكرمل، وذلك بهدف حماية المنشآت الحيوية والحساسة، خاصة في منطقة خليج حيفا. هذه المنظومة قادرة على اعتراض طائرات من مسافة 160 كيلومتراً واعتراض صواريخ من مسافة 60 كيلومتراً، كما تم إدخال شبكات إنذار مبكر تزيد من قدرة رصد حركة الصواريخ والطائرات واكتشافها على علوّ منخفض. وهنا يشير مسؤول أمني إسرائيلي إلى أن الحرب المقبلة ستشهد وصول طائرات إيرانية وسورية أيضاً من دون طيار، تقوم بعمليات انتحارية، وهي طائرات متطورة، لا تزن كثيراً لكنها دقيقة للغاية وقادرة على الطيران مسافة مئات الكيلومترات وتحمل كمية غير قليلة من المتفجرات. وفي هذه الإجراءات، تستعد إسرائيل لمواجهة احتمال استغلال الطائرات من دون طيار لاستخدام صاروخ دقيق التوجيه لضرب أهداف استراتيجية، كالقواعد العسكرية للجيش أو منشآت استراتيجية أخرى عبر الطيران على ارتفاع منخفض، ما يقلل من قدرات شبكات الرادار على كشفها.