الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد لم يهادن السلطة السياسية في بلاده مرة، ولم يهادن السلطة الثقافية أيضاً. في تونس، يُعتبر شاعرَ «الموقف»، صاحب القصيدة التحريضية فكرياً وسياسياً وثقافياً منذ مجموعته الأولى «نشيد الأيام الستة»، التي مُنعت في العام 1984 ليعاوَد إصدارُها في العام 1988. كان ثورياً قبل الثورة التونسية. ثورته بدأت في الشعر، عند إعلانه اللغوي عن كتابته الشعرية: «لا يعنيني أن يكون لي قرّاء بقدر ما يعنيني أن أتطابق مع نفسي، لأنني لا أنطلق من أي قناعة مسبقة في الكتابة». وكذلك عند تأسيسه «بيت الشعر التونسي». وثار سياسياً حينما ردّد دائماً: «أصحاب المناصب جميعهم أقصر مني قامة»، و«أكثرُ ما يُنغّصُ عليّ حياتي هو الحديثُ عن الوطنية في حالات السلم». «من يوميات الثورة التونسية» هو الكتاب الجديد الذي يعمل على إصداره، وفيه يروي تجاربه اليومية خلال الثورة، حين جعل من بيته «القيادة الشعرية للثورة التونسية». في زيارة خاصة قام بها إلى بيروت هذا الأسبوع، ليحيي أمسية شعرية الثامنة مساء اليوم في نادي «تاء مربوطة» التقينا الشاعر التونسي أولاد أحمد، وكان هذا الحديث حول الشعر والثورة والآمال: إذا كان شعرك قبل الثورة يقول الثورة ويطلبها، ما الذي يقوله الآن بعد الثورة؟ - الثورة متواصلة على جميع الصعد. لقد كان مطلبها: «الحرية والكرامة»، فأصبح مطلبها:»الحرية والكرامة... فوراً». في هذا المجال، لا يبقى للشاعر سوى تعرية الاستبداد بأكثر الأساليب سخرية، وذلك عبر حثّ الثوار على مواصلة الصمود في وجه الاستبداد العمودي المختبئ في عمائم وجلابيب الشريعة. الشريعة باعتبارها منفذاً إلى السلطة والتسلّط في عالمنا العربي وليس باعتبارها أداةً لأنْسنة الدين. هل يمكن القول إن انتفاضة الشعب التونسي وثورته قد حققتا ما طمحتا إليه شعراً؟ - لم يتحقق أي شيء ملموس على الأرض، والدليل أن فصائل عديدة من الشعب التونسي لا تزال تلتجئ إلى رفع أبيات من شعري ومن شعر غيري للتعبير عن مطالبها المستعجلة. لا يطالب الشعر بأكثر من جعل «الحياة جديرة بالحياة» في هذا الوضع العربي المتآمر على نفسه بسبب تعويله على رذائل الجهل وتطيّره من فضائل المعرفة. هل هذا يعني أنه كان للشعر والشعراء مساهمة فعّالة في الثورة التونسية؟ وما هي مساهمتك الشخصية على سبيل المثال؟ - لم يكن أغلب شعراء تونس معنيين بمسار الثورة وبتطوراتها، لذلك لجأ أغلبهم إلى الصمت المطبق حزناً على الاستبداد السابق وتملقاً للاستبداد اللاحق. في ما يخصني، سمّيت بيتي «القيادة الشعرية للثورة التونسية» منذ أحرق محمد البوعزيزي نفسه يوم 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010، وفي الأيام القليلة القادمة ستصدر لي ثلاثة كتب، منها «يوميات الثورة التونسية». لم أكن أكتب القصائد فقط، كنت أكتب النثر أيضاً. وأُشهّر بالفساد والاستبداد، وأعمل على إعانة السلطة على السقوط، إلى أن سقطت من تلقاء نفسها. وكان نشاطي ذلك يكلفني عناءً كبيراً في حياتي اليومية وفي نشاطي الأدبي، فالشعر هو أهم ما يحتاجه الشعب التونسي الآن لمواصلة تحرره من الاستبداد الجديد الذي ظهر منذ اليوم الأول لتسلم الإسلاميين وحلفائهم مقاليد الفترة الانتقالية. لقد قامت الثورة التونسية على أساس بيت من الشعر لأبي القاسم الشابي: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة... فلا بد أن يستجيب القدر»، وهي لذلك ثورة شعرية وفنية بصدد تنظيف مسوّدتها، رغم إغارة السياسيين عليها وتحويلهم لوجهة أهدافها الدقيقة المعلنة. هل مازلت بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة «تحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد»، كما تقول في إحدى قصائدك المشهورة والتي يحفظها أغلب التوانسة عن ظهر قلب؟ - طبعا لا أزال أحبها. ولكنني لا أرضى لها أن تتأخر إلى القرون الوسطى مثلما يقترح الأصوليون، الذين لم يقرؤوا كتاباً إبداعياً واحداً طيلة حياتهم، المليئة بأوهام السلطة وباستئناف العبودية. من يملك قبراً في بلاده... يملك مستقبل بلاده. هل يمكنني أن أفهم أن الشاعر في العالم العربي مازال محرضاً أو مبشراً أو مسموع الرأي؟ - «الشعرُ شعراء»: كما يقول أدونيس. يكفي أن يكون الشاعر صادقاً مع اللحظة التاريخية ويصوغها بأدوات الشعر وبأسلوبه الخاص، حتى يجد من يسمعه ومن يؤمن به. الشعراء غير المسموعين هم الذين يروّجون إشاعة مفادها «أن الشعر قد مات»، من دون أن يخجلوا من حياتهم بعد «موت الشعر». في المرحلة الماضية جربت العمل مع السلطة الثقافية في مشروع «بيت الشعر» قبل أن تستقيل بعد سنوات أربع من العمل. ماذا عن هذه التجربة؟ ولماذا فشلت؟ - «بيت الشعر التونسي» فكرة من أفكاري الشخصية، والدليل على عدم فشله كفكرة، هو وجوده في عدة عواصم عربية. لقد أعطيته أربع سنوات من حياتي التي لا يمكن تسميتها حياة بالمعنى الدقيق للكلمة، غير أن تضافر جهود السلطة السياسية ذات الخيال الأعرج مع جهود بعض الشعراء «الذين يكتبون تقارير للبوليس أفضل من قصائدهم الشخصية» جعلني أغادر بيتاً هو في الأصل بيتي. لنعد إلى القصيدة، أنت تقول إنك تفضل قصيدة التفعيلة على قصيدة النثر، ما الذي تفضله في الأولى على الثانية؟ - هناك شعر وهناك نثر، وهما يختلفان من حيث طبيعة التناول. أما القصيدة، فهي درجة من درجات الشعر، أي نوع من أنواعه المتعددة. أعتقد أن الشعراء والنقاد العرب المعاصرين استطابوا تسمية «قصيدة النثر» التي كان الشاعر الفرنسي شارل بودلير يقصد بها «القصيدة غير الموزونة»، وذلك للهروب من «تجنيس» الكثير من النصوص العربية القديمة التي ترتقي إلى مرتبة الشعر. لا أفضل التفعيلة على النثر. وفي المجالين هناك شعراء عرب كبار وشباب يفرضون عليك كل إعجاب، ولكنني أميل إلى الإيقاع. وتلك مسألة مزاج لا غير. أنت تُصنّف بأنك أحد أبرز شعراء فترة الثمانينات. لماذا في تلك الفترة؟ وهل توافق على تقسيم الشعراء إلى أجيال؟ - هم يصنفونني هكذا، أما أنا فمهموم بالمحاولة رغم مآسي الحياة التونسية والعربية. أمّا مفهوم «الأجيال»، فهو تقسيم إجرائي لا قيمة له عندما يتعلق الأمر بقيمة النصوص. يصف البعض شعرك بأنه عدواني ومباشر بينما يرى فيه آخرون شعراً مفعماً بالموسيقى والمشاعر المرفهة، كيف تصفه أنت شخصياً؟ - أفضل أن يقرأ الناس ما أكتب بدل الاكتفاء بالتصنيف، الذي يذكرني دائماً بمحاكم التفتيش. أغلب الشعراء الكبار مباشَرون ومفهومون بمعنى من المعاني. وكل ما يقع تصوّره بشكل جيد يُصاغُ بشكل واضح. فهل عدم فهم نص الشاعر دليل كاف على متانة هذا النص؟ شخصياً أشكّ في مثل هذا الزعم. ما رأيك بالشعر التونسي الشبابي والشعر المغاربي المعاصر. كيف تنظر إلى ما يكتبه الشباب في هذه المرحلة؟ - هناك بانوراما كافية للإعجاب وأخرى كافية للتقزّز. المهم أن الشعر لا يزال نشاطاً يومياً، شأنه شأن الأدب، يساهم في تحسين الذائقة وفي تشغيل المدارس والمدرسين والمطابع ودور النشر. إنه نشاط اجتماعي واقتصادي بمعنى من المعاني. أنت اكبر من تونس الاستقلال بسنة (مواليد العام1955)، وأنت الآن أكبر من تونس الثورة بخمسة وخمسين سنة... كيف تنظر إلى ما جرى في كل تلك السنوات. ما هي المفاصل التي تعنيك شخصياً وتحب أن ترويها للقارئ؟ - جرت أشياء كثيرة وخطيرة، قليل منها مفرح وكثير منها مُذلّ. ولكنني ألخص كل ذلك في هذه الفقرة التي سترد في مجموعتي الشعرية التي تصدر قريباً مع «يوميات الثورة التونسية»: من بين الشعارات الكثيرة المحرّضة على منازلة الموت اليومي اخترت «أن أضحّي بالعقائد والقيم البالية من أجل أن يكون الإنسان سيد نفسه ومصيره، اعتقاداً مني أن الحرية شرط لا يمكن التفاوض حول مدى أحقية الإنسان به، وأن الحياة الكريمة أهم من الشعر ذاته، إذا كان لا بد من خيار». «الشعراء هم رؤساء جمهورية الحلم»: هكذا كان يردد الشاعر الفرنسي لويس أراغون. لتنفيذ هذه الخطة، وتنزيل ذلك الشعار، تخيرتُ، مثل آخرين في الوطن العربي، حلولاً غير مسلحة، ظنّاً منّي أنها لن تزعج أحداً: أقلاماً ملونة أوراقاً بيضاء وجيشاً من العواطف الحارة ووصلت الليل بالنهار، أدفع بالمعاني إلى أقصاها، وبالناس إلى المطالبة بحقوقهم على الفور وعلى عين المكان...».