الشاعر التونسي محمد الخالدي من الوجوه الشعرية الهامة في تونس وفي الوطن العربي، غادر بلده إلى المشرق العربي مطلع السبعينيات، واستقر به المقام في بغداد، ثم غادرها إلى جنيف التي عاش بها عدة سنوات قبل أن يعود إلى تونس مطلع التسعينيات، وليعمل في صمت بعيدًا عن الأضواء.. جرّب كل الأشكال الشعرية، بدءا بالقصيدة العمودية، مرورًا بقصيدة التفعيلية، ووصولًا إلى قصيدة النثر.. له في رصيده 9 مجموعات شعرية.. هذه الكفاءة الشعرية مكّنته من الإشراف على بيت الشعر التونسي بعد سنوات طويلة من التهميش والاقصاء من طرف السلطة الثقافية السابقة في تونس، ومع السلطة الجديدة نجح فيما قدمه من تصور عما يمكن أن يكون عليه بيت الشعر التونسي في المستقبل.. البيت سيحتوي كل الفنون عن توليه مسؤولية بيت الشعر التونسي، يقول الشاعر محمد الخالدي: قبل استلامي مسؤولية بيت الشعر طُلب مني تقديم تصور وقدمته للجهات المسؤولة وتحديدًا وزارة الثقافة، وأنا أعمل حاليًا على إثراء هذا التصور بالتشاور مع مثقفين وروائيين وشعراء وحتى الفنانين، لأن من أهداف البيت هو أن ينفتح على الأشكال التعبيرية الأخرى من رسم وموسيقى ونحت، كل الفنون الأخرى، لأن في الأصل الفنون تعود إلى جذر مشترك واحد، وما يوجد مع الأسف في واقع الوطن العربي هو الطلاق ما بين هذه الفنون، لم يحدث هذا في الغرب، والفنان يعمل إلى جانب الشاعر، والشاعر يعمل إلى جانب الموسيقي، ولذلك كان هناك أدب ثري وفن ثري لأن الفنون تغتني من بعضها البعض وأثر بعضها في البعض، ومع الأسف في واقعنا العربي لم يتحقق هذا الشيء وظل هناك طلاق بين هذه الفنون وسنعمل على ترميم الجسور بينها وإعادتها الى حالتها الطبيعية، وبالتالي ستكون الأنشطة في بيت الشعر منفتحة على هذه الفنون ولن نستمع إلى الشعر فقط وإنما سنستمع إلى الشعر وإلى الموسيقى مصحوبًا بالرسم وبالصور الفوتوغرافية ذات التوجه الفني مصحوبًا ربما بمسرحة الشعر، فهناك قصائد كثيرة ممكن أن تمسرح وهذا نادر عندنا وأنا استغرب عدم وجود هذا الفن، وحتى الانفتاح على السينما والرواية، حين تقرأ رواية في بعض الأحيان تجد فيها من الشعر ما لا تجده في القصيدة نفسها، إذن الشعر هو على عكس ما يشاع من أن زمنه انتهى، الشعر لم ينته وإنما تسرّب الى أشكال تعبيرية أخرى، ولنا أمثلة كثيرة عندما نقول مثلا هذا الفيلم فيه الكثير من الشاعرية، وغيرها من الفنون التي لها علاقة بالشعر، ونحن في بيت الشعر من أهدافنا أن نعيد هذه العلاقة إلى سالف عهدها. نأمل تبادل وجهات النظر وعن البرنامج المستقبلي لتطوير البيت، قال الخالد: نحن سنعمل للاستفادة من تجارب البيوت المعروفة مثل بيت رام الله والمغرب والعراق، ولديّ نماذج من إصدارات هذه البيوت وذلك بإصدار مجلة ستكون من النوع الراقي يسهم فيها النقاد والشعراء، وسيكون هناك ركن خاص بالترجمات، خاصة ولدينا مترجمون متمرسون في ترجمة الأدب، وبالتالي ستكون مجلتنا ملمة بكل شيء ومنفتحة على كل التعابير الفنية الأخرى، وهو ما سيوصل وجهة نظرنا لكل أصدقائنا واخواننا في البيوت الشعرية العربية وما نأمله هو تبادل وجهات النظر وزيارة لبيتنا. المشهد الشعري التونسي ويشير الخالدي إلى المشهد الشعري التونسي، ويراه بأنه لا يختلف كثيرًا عن أي بلد عربي، هناك الغث وهناك السمين، وإن كان الغث أكثر من السمين وهذه حقيقة، ومع هذا هناك أسماء مهمة في الشعر التونسي لها حضور عربي، وأهم ما في الساحة التونسية حاليًا -وهذا أؤكد عليه- هو وجود موجة أسميها «موجة صاخبة «هي موجة من الشعراء الشباب الموهوبين، عدد كبير أعرفهم شخصيًا واطلعت على كتاباتهم وهذا هو مستقبل الشعر في تونس، وأنا أملي كبير في هذا الجيل، وإن كنت لا أحبذ تسمية الأجيال والتقسيم، لكن هم فعلا جيل موهوب ومثقف وقارئ نهم، ونحن سنعتمد في أنشطتنا في بيت الشعر عليهم وعلى سماتهم المتميزة، وفي ما يخص مسالة التحولات التي يعيشها المشهد الشعري التونسي فهي عادية بحكم الظروف التي مرّت بها تونس، حيث أصبح هناك توجه إلى الشعر المباشر، شعر التعبئة والمناسبات، لكن هذا شعر مرحلي في اعتقادي لأنه لا تتوفر فيه العناصر الفنية التي تضمن بقاءه بعد هذه المرحلة. ويضيف: الشعر التونسي مثل الشعر العربي، يستند إلى مرجعية تراثية وللشعر العربي القديم، ومرجعية حديثة بدءا من بداية القرن التاسع عشر وعصر الكلاسيكيون الجدد من شوقي وحافظ إبراهيم، ثم أيضًا المدرسة الحديثة بدءا برواد لشعر الحديث السياب ونازك الملائكة، وأيضًا منذ الثمانينيات شهدت تونس موجة من التجريب، الشعر الحداثي، وقصيدة النثر التي دخلت على الخط وأصبح لها وجود ملفت للانتباه، وهذه كلها تشكّل مصادر الشعر التونسي مثل بقية الأقطار العربية، ويبقى التفاوت بين الشعراء كلٍ حسب مقدرته في الاستفادة من هذا الإرث وتوظيفه ويتوقف هذا على ثقافته وتكوينه وقدرته الابداعية. هذا ما يعيق الشعر التونسي وحول ما يعيق النص الشعري التونسي حتى يحلق عربيًا، وهل المشكلة في النص أم الشعراء، قال الخالدي: المشكلة في الاثنين وربما هناك طرف ثالث، بعض الشعراء بما في ذلك الجيل السابق، أسماء كبيرة في تونس لكنها غير معروفة على المستوى العربي لأن نصوصها لا تستطيع أن تفرض نفسها، في فترة الستينيات والسبعينات لم يظهر لنا شاعر في مستوى مثلا نزار القباني أو أدونيس أو السياب، في المغرب العربي بشكل عام لم يظهر هذا الشاعر، بعد السبعينيات بدأ يظهر جيل آخر وأنا منهم، بدأنا نتلمس القصيدة الحديثة، وبعض الأسماء كان لها حضور عربي محترم، أيضًا لا ننسى الطرف الثالث وهو النشر، الذين برزوا هم الذين استطاعوا أن يخترقوا الحدود بنشر نصوصهم خارج الوطن، وهم قلة، والإعلام أيضًا له دوره، وسأكون صريحًا هناك أسماء لا ترتقي حتى إلى مستوى الشعر المتوسط لكنها تبرز بسبب تضخيم الإعلام حتى أن البعض منهم تحوّل إلى ظواهر إعلامية، ولاحظنا منهم في السنوات الأخيرة من يجوب الأقطار العربية بقصائد تُصنف ضمن الشعر الملتزم، لكنها فنيًا لا ترتقي إلى مستوى المتوسط، ولا اعتقد أن دارسًا في المستقبل سيكلف نفسه عناء دراسة هذا الشعر. الشعر التونسي بعد الثورة ويرى الشاعر الخالدي أن المشهد الثقافي التونسي وبعد سنة من ثورته لم يصنع أفقا جماليا وفكريا جديدا ومتفتحا، وقال: مع الأسف لم يحدث بعد مرور سنة على الثورة، وهذا بسبب موجة الأعمال المرتجلة وهي فعلا كذلك، فلم تظهر حتى الأن أعمالًا تليق بما حدث في تونس، تليق بهذه الثورة، ربما ستظهر لاحقًا بعد عامان أو أكثر بعد نضج وتفكير، لأن ما رأيناه أُعد بشكل سريع، البعض أراد أن يساهم ويلتحق بالثورة، وهذا ليس على مستوى الكتابة فقط بل حتى على مستوى الأغاني، استمعت إلى أغان رديئة فعلا ولا تليق بالثورة ولا بتضحيات الشعب التونسي، لأن هذا المطرب أو الملحن يريد أن يسهم بدوره لكن مساهمتهم لم تكن في مستوى الحدث، ونفس الشيء للأعمال المسرحية، ولذا أتمنى على المبدعين التركيز أكثر لتقديم أعمال ناضجة، وهناك ظاهرة أخرى الأن، حيث أصبحنا نرى يوميًا تواجد الكتاب السياسي في المكتبات، فهذه الإصدارات أراها حقيقة تفتقر إلى عمق التحليل والتروي أحيانًا. ويختتم مدير بيت الشعر التونسي الشاعر محمد الخالدي حديثه ل «الأربعاء» بالتعبير عن رأيه في الاتجاه الإبداعي في الشعر السعودي الحديث، فيقول: أنا فوجئت بالاحتفاء بقصيدة النثر، هذا ما فاجأني في السعودية وجل دول الخليج بتواجد نصوص كثيرة نثرية محتفى بها، ومنخرطة في الحداثة، وهي ممتازة في معظمها، صراحة اكتشفت هذا من خلال متابعتي لعديد المجلات الخليجية، ودُهشت من ذلك، ولكنني باركت هذا الانخراط في قصيدة النثر مع أنني من أنصار قصيدة التفعيلة، وهنا لابد أن اعترف بأن هناك نهضة حقيقية في الأقطار الخليجية وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية التي تعج بالمطبوعات الثقافية والفنية، وهذا ما نفتقر إليه نحن في المغرب العربي، فنحن نستهلك كل ما يأتينا من مجلات أدبية وغيرها من الخليج العربي، كما أننا أيضًا نتابع عبر القنوات التلفازية الحركة الشعرية والأدبية، ربما هذا ساهم في انتشار قصيدة النثر وحتى الشعر النبطي المحافظ على الجذور التراثية في تلك المناطق وقد وجد جماهير مهولة تتابعه، ولكي نسير في هذا الركب سيُصدر بيت الشعر التونسي مجلة مختصة وغزيرة بالشعر وعلاقته بالنقد والشعر وعلاقته بالفنون الأخرى، وستكون مفتوحة للأقلام الخليجية والمشرقية للتعرّف على وجهة نظرهم وجديدهم.