برهنت الأفكار في أوروبا على مركزيتها في التغييرات التي تجري في العالم أو تعصف به، وعلى رغم كثافة الأحداث الكبرى خارج قارة أوروبا غير أن التماسّ يكون موجوداً ومؤثراً على تحريك الحدث أو إنضاجه أو إشعاله، وعلى رغم دخول العالم - كما يقول هوبزباوم - إلى زمن الهيمنة الأميركية منذ انتهاء الحرب الباردة، وبدء الصراعات الإقليمية، وانفجار الثورة المعلوماتية، غير أن تاريخ الأفكار في أوروبا يبقى التاريخ الأكثر صلابةً وتأثيراً، وعلى رغم تمدد الأيديولوجيات وانفجار النظريات في أميركا والشرق بما فيها روسيا، بيد أن مركزية تاريخ الحدث الأوروبي يبقى كالطيف الذي يغطّي بظلاله على النظريات المنقوضة أو المهدّمة والمهشّمة، أو المبنيّة حديثاً على أنقاض نظرياتٍ تلاشت وبقيت مجرد أساطير في كتب التاريخ. رحل أحد أبرز المؤرخين المعاصرين وهو «إريك هوبزباوم» صاحب «الرباعية» (عصر الثورة، عصر رأس المال، عصر الإمبراطورية، عصر التطرفات)، ترجمها إلى العربية عَالِم الاجتماع الأردني فايز الصايغ، بترجمةٍ فريدةٍ، يكفي أن نستعرض أفكاراً عامةً ومختصرةً عن الرباعية. في تلك المدوّنات الكبيرة والضخمة يستعرض «هوبزباوم» موسوعياً تاريخ العالم المعاصر، بدأه ب«عصر الثورة»، وبه يتحدث عن «الثورة المزدوجة»، التي خلقَت العالم الحديث، إذ ضارعت الثورة الفرنسية الثورة الصناعية، بعدها سرعان ما تغيّرت نواحي الحياة في أوروبا في مجالات الحرب والديبلوماسية، وفي المناطق الصناعية الجديدة وعلى الأرض ووسط طبقات الفلاحين والبرجوازية والارستقراطية، في أساليب الحكم والثورة، وفي مجالات العلوم والفلسفة والدين... في هذا الكتاب يُعيد المؤرخ معاني كثيرة ارتبطت بالثورة، ويمكن للقارئ أن يكتشف الثغرات المفهومية العربية التي استخدمت إزاء الاحتجاجات الحالية لجهة إطلاق أوصاف الثورة على أحداثٍ رمزية أو انقلاباتٍ عسكرية. في كتابه «عصر رأس المال»، وهو الجزء الثاني من تاريخه الموسوعي، واصل هوبزباوم تحليله الموسوعي للأحداث والأفكار الكبرى في العالم، إذ ناقش صعود الرأسمالية الصناعية التي رسّخت الثقافة البرجوازية، وفيه يتحدث عن أن امتداد الاقتصاد الرأسمالي وتوسعه شمل كل بقاع الأرض، ثم يتعرّض للربط بين الاقتصاد والتطورات السياسية والفكرية ليسرد تاريخاً واقعياً عن الثورة وعن إخفاقاتها وتبخر رهاناتها. في كتابه الثالث «عصر الامبراطورية» ينطلق هوبزباوم بمعاوله الماركسية لمناقشة موسوعية إزاء «الهيمنة الإمبريالية الغربية» وتمددها في أنحاء الأرض، جاءت صرخته مدوّية، حين كتب: «إن ما تجلى في العالم الغربي من مظاهر التوسع الاقتصادي والتقدم العلمي والتقني والارتقاء وشيوع السلام، إنما كان يخفي انهيار الحقائق الفكرية واليقينية القديمة التي بشّر بها وأكدها المفكرون والفنانون والعلماء والمبدعون بمغامراتهم الاستكشافية في أصقاع العقل البشري وأعماق النفس الإنسانية». في الجزء الرابع «عصر التطرفات»، رأى فيه أن القرن الت20 «الوجيز»، كما يعبّر هو عن ذلك، قسّم العصور إلى أقسامٍ ثلاثةٍ، بدأها بعصر الكارثة، إذ عصر الحروب الشاملة، والثورة العالمية، والهوّة الاقتصادية، وسقوط الليبرالية، ثم في قسمٍ تلاه تحدث عن العصر الذهبي، إذ الحرب الباردة، والثورة الثقافية، والاشتراكية الحقّة، في القسم الأخير من الكتاب تحدث عن الانهيار، عن العالم الثالث والثورة، وفي آخر الكتاب حوار نفيس بعنوان: «عقدان حافلان بالأزمات ومواطن الخلل: العالم بين 1991 و2010». لا يمكن لمقالةٍ كهذه أن تفي بمضمون مشروعٍ تجاوز صفحاته 4000 صفحة، غير أن هذه خلاصات الفهرس ونتائج عابرة وتعريفاتٍ عامة. أظنّ أن هذه الأسفار تستحق أن تكون موضع دراسةٍ وتحليل، بل ومحط إمكانات واختبارات لوقائع العالم المتلاحقة والمُحرجة، وبالأخص عالمنا العربي الذي تنشط فيه حالات التشظّي والجموع، وتفتقد فيه حاسّة التحليل والتأمل. في ظل كل تلك الحرائق نستعيد مع «هوبزباوم» مقولته: «إن الأصولية الإسلامية ظاهرة جماهيرية». www.shoqiran.net @shoqiran