. يتقلب الوضع في العراق باستمرار، ولم يتغيّر بعد الطرح العام عن مرحلة ما قبل السقوط، صحيح أن تشبيه جورج بوش ب\"صلاح الدين\" قد انتهى بفعل عودة الحياء قليلاً. غير أن طريقة التعامل مع مفهوم عريق وقديم ك\"الديمقراطية\" لم تتغير، ذلك أن الديمقراطية لها إشكالياتها الفلسفية الضاربة، وقد تطرقتُ في مقالة سابقة في هذه الجريدة إلى طرح الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس حينما تعامل مع هذا المفهوم بوصفه \"ينتج مشكلاته\" هنا سأعلق على رأي هام لمؤرخ وباحث معاصر عريق هو إريك هوبزباوم صاحب الكتب الصلبة مثل (عصر الثورة، وعصر رأس المال) وقد تمت ترجمتها للعربية، يصعّد هوبزباوم مؤخراً في لهجته ضد \"إعادة تخطيط العالم\" على الطريقة الأمريكية، وذلك في طرح طويل نشرته وسائل الإعلام قبل فترة (ونشرت خلاصته التي اعتمدتها هنا شيرين حامد فهمي). يشنّع على زعم بعض السياسيين الأمريكيين الذين يعتقدون أن بإمكانهم تطبيق الديمقراطية الغربية في أي مكانٍ كان؛ لأنها هي الوحيدة التي ستحل الكوارث، وتخلق السلام بدلاً من الفوضى ويردّ على هذا الطرح قائلاً: \"هذه الفكرة ليست فقط خيالية ووهمية؛ بل هي في منتهى الخطورة\" ويبدو أن الخطورة التي يقصدها أن تمديد مسارات تطبيق المفهوم على جميع المجتمعات من دون اعتبار لحجم الخراب الذي ترزح تحته تلك المجتمعات هو الخطر بعينه، خاصةً وأننا إذا قرأنا المشروع الذي أراد الأمريكي تطبيقه في العراق فإنه بالغ الخطورة ذلك الحلم يتبخّر ويتهاوى، فبعد أن كان من ضمن أهداف الحرب تخليص العراق من \"الاستبداد التام\" وزرع \"الديمقراطية التامة\" أصبحوا وفي آخر مناسباتهم يتحدثون عن \"حفظ الأمن\"! إذن لم تكن الديمقراطية إلا حلماً وهذا الحلم تبخّر مع بروز شخصيات سياسية عراقية دكّت العراق دكاً بميليشياتها وزبانيتها وأصبح العراق بؤرة الدم الحار، وتتغذى مستنقعات السلخ بدماء الأبرياء التي تنزف كل يوم وكل مساء. يستدل \"هوبزباوم\" على إشكالية \"الانتخاب نفسه\" كأداة الديمقراطية الرئيسية، بجمهورية \"فايمر\" الألمانية التي أدت إلى كسب \"أدولف هتلر\" للانتخابات وأظن هذا الاستدلال ربما يأتي من كون هوبزباوم يعنى بالطرح التاريخي، وإلا فإن آلية انتخاب الفرد ترد إلى أنظمة انتخابية أيضاً، ربما يمكن طرح رؤية \"كارل بوبر\" حول (مفارقة الديمقراطية) التي سأتطرق لها بمقالة خاصة لاحقاً والتي تعني أن الديمقراطية قد تحمل السفلة والجهلة إلى الواجهة غير أن بوبر يطرح أيضاً معنى \"حماية الديمقراطية من غير الديمقراطيين\"! ولهذا مجالات أخرى، غير أن وصول هتلر بوسائل ديمقراطية لا يلغي المفهوم وإنما يطرحه ك\"إشكالية\" كما هو الفعل الذي نمارسه الآن، فلا يوجد في السياسة أنظمة سياسية كاملة، وإنما توجد أنظمة أقل نقصاً وهذه معضلة السياسة نفسها أنها هي أكبر إشكالية يواجهها المجتمع، وقد قال كانط ذات مرة أن من أعقد الأشياء \"فنّ الحكم، وفنّ التربية\" هوبزباوم طرح انتخاب هتلر كمثال لرؤيته التي رأى فيها البعض ملامح التشنج. رأى هوبزباوم أن من إشكاليات \"الديمقراطية\" التي تريد قوى أن تزرعها كما يزرع الشجر في العالم العربي أن حرب العراق نفسها لم يتم منعها ديمقراطياً! ثم يكتب: (إن القوى المهيمنة تضع مصالحها وأهدافها أولاً، ثم تبحث عن تبريرات \"أخلاقية\" لكي تحقق ما تصبو إليه، خاصة عندما تعتقد تلك القوى بأن الرب يقف على جانبها. إن الإمبراطوريات الخيرة والشريرة تسببت بذلك في \"بربرة\" العصر الذي نعيش فيه) البعض يرى أن مصالح بعض الدول قد تتفق مع أفكاره، فيستخدم مصالحها لتمرير أفكاره، وهذا ما دفع بعض الصحافيين للتطبيل للحرب على العراق التي أضعفت الشعوب! وأرهقتهم نفسياً وسياسياً وجعلتهم يصارعون الموت والدمار والحزن. ما فائدة صناديق الاقتراع حينما تركن في كل مكان بينما تموت الشعوب من الجوع ومن الخرافة، لا يمكن أن نزرع الديمقراطية من فوق، إنها تنبع بإرادة جماعية من القاع من الأسفل برغبة اجتماعية، إن المطالبة بالديمقراطية لا تكون بالبيانات والمعاريض والبرامج الزاعقة، وإنما بإدراك اجتماعي وتلهّف يؤجج \"الاحتياج\" لنظام يضبط. وأخيراً، يرى \"هوبزباوم\" إلى أن القرن العشرين أثبت استحالة إعادة تصميم العالم على يد الدول، حتى ولو كانت دولا ذات هيمنة عالمية. فلا التحولات التاريخية يمكن أن تُختصر، ولا التحولات الاجتماعية يمكن أن تحدث بفعل نقل المؤسسات عبر الحدود. ويعلل ذلك موضحا أن الشروط المُهيئة لإيجاد حكومة ديمقراطية فعالة ليست سهلة؛ بل من النادر وجودها. ثم آتي على النص الأهم والذي قال فيه هوبزباوم: (إن أخطر ما في \"نشر الديمقراطية\" هو تسريب الوهم إلى الشعوب التي لا تتمتع بالديمقراطية) هذا هو ما حدث فعلاً فالوضع العربي الآن مطبق ومرهق فالمنطقة تعيش أكثر أيامها انسداداً ابتداء بالتشوّه الأمني الحارق، وبصعوبة العيش بسبب غلاء الأسعار وأزمة السكن، وبصعوبة التكيّف الذهني والنفسي بسبب ازدياد المواليد والازدحام الفضيع، وبسبب انغلاق الآفاق السياسية كلها، إن هذا يزيد التعقيد فالمرحلة هذه لا يمكن أن تمر بسهولة مع احتدام الخلافات من كل جانب وبروز أزمات جديدة كل يوم وانحدار لمستوى التفاؤل على نحو هو الأسوأ منذ قرون. فهد سليمان الشقيران [email protected]