ما حدث من مزاعم عن إمكانية تحقيق ديموقراطية عبر الدبابة بان فشله، في العراق تغلبت الميليشيات على كل أدوات الديموقراطية، مرت تسعة أشهر من دون تشكيل حكومة، تحوّلت ديموقراطية العراق إلى فضيحة تاريخية. يطرح الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس مفهوم الديموقراطية بوصفه مفهوماً «ينتج مشكلاته». المؤرخ العريق «إريك هوبزباوم» صاحب الكتب الصلبة مثل (عصر الثورة، وعصر رأس المال) ، يصعّد باستمرار ضد مشاريع «إعادة تخطيط العالم» على طريقة الامبراطوريات العالمية، وذلك في عددٍ من أطروحاته. يشنّع هوبزباوم على زعم بعض السياسيين الذين يعتقدون أن بإمكانهم تطبيق الديموقراطية الغربية في أي مكانٍ كان؛ عبر المجيء بالديموقراطية على طريقة الترويج للسلعة يقول:«هذه الفكرة ليست فقط خيالية ووهمية، بل هي في منتهى الخطورة». يبدو أن الخطورة التي يقصدها أن تمديد مسارات تطبيق المفهوم على جميع المجتمعات من دون اعتبار لحجم الخراب الذي ترزح تحته تلك المجتمعات هو الخطر بعينه، خاصةً وأننا إذا قرأنا المشروع الذي أراد الأميركي تطبيقه في العراق فإننا نجده مجرد حلم سرعان ما تبخّر، فبعد أن كان من ضمن أهداف الحرب تخليص العراق من «الاستبداد التام» وزرع «الديموقراطية التامة» أصبحوا في آخر مناسباتهم يتحدثون عن «حفظ الأمن»! إذن لم تكن الديموقراطية في المجتمعات المتخلفة إلا حلماً وهذا الحلم تبخّر مع بروز شخصيات سياسية عراقية دكّت العراق دكاً بميليشياتها وزبانيتها وأصبح العراق بؤرة الدم الحار، وتتغذى مستنقعات السلخ بدماء الأبرياء التي تنزف كل يوم وكل مساء. يستدل «هوبزباوم» على إشكالية «الانتخاب نفسه» كأداة الديموقراطية الرئيسية، بجمهورية «فايمر» الألمانية التي أدت إلى كسب «أدولف هتلر» للانتخابات وأظن هذا الاستدلال ربما يأتي من كون هوبزباوم يعنى بالطرح التاريخي، وإلا فإن آلية انتخاب الفرد ترد إلى أنظمة انتخابية أيضاً. «كارل بوبر» يتحدث عن (مفارقة الديموقراطية) والتي تعني أن الديموقراطية قد تحمل السفلة والجهلة إلى الواجهة فيطرح حصناً لاستخدامات المفهوم بالتأكيد على ضرورة»حماية الديموقراطية من غير الديموقراطيين»! رأى هوبزباوم أن من إشكاليات «الديموقراطية» التي تريد قوى أن تزرعها كما يزرع الشجر في العالم العربي أن حرب العراق نفسها لم يتم منعها ديموقراطياً! ثم يكتب: (إن القوى المهيمنة تضع مصالحها وأهدافها أولاً، ثم تبحث عن تبريرات «أخلاقية» لكي تحقق ما تصبو إليه، خاصة عندما تعتقد تلك القوى بأن الرب يقف على جانبها. إن الإمبراطوريات الخيرة والشريرة تسببت بذلك في «بربرة» العصر الذي نعيش فيه). لا يمكن أن نزرع الديموقراطية من فوق، إنها تنبع بإرادة جماعية من القاع من الأسفل برغبة اجتماعية، ذلك أن المطالبة بالديموقراطية لا تكون بالبيانات والمعاريض والبرامج الزاعقة، وإنما بإدراك اجتماعي وتلهّف يؤجج «الاحتياج» لنظام يضبط. وأخيراً، يشير «هوبزباوم» إلى أن القرن العشرين أثبت استحالة إعادة تصميم العالم على يد الدول، حتى ولو كانت دولا ذات هيمنة عالمية. فلا التحولات التاريخية يمكن أن تُختصر، ولا التحولات الاجتماعية يمكن أن تحدث بفعل نقل المؤسسات عبر الحدود. ويعلل ذلك موضحا أن الشروط المُهيئة لإيجاد حكومة ديموقراطية فعالة ليست سهلة؛ بل من النادر وجودها. ثم آتي على النص الأهم والذي قال فيه هوبزباوم: (إن أخطر ما في «نشر الديموقراطية» هو تسريب الوهم إلى الشعوب التي لا تتمتع بالديموقراطية)! هذا هو بالضبط ما حدث فالوضع العربي الآن مطبق ومرهق فالمنطقة تعيش أكثر أيامها انسداداً ابتداء بالتشوّه الأمني الحارق، وبصعوبة العيش بسبب غلاء الأسعار وأزمة السكن، وبصعوبة التكيّف الذهني والنفسي بسبب ازدياد المواليد والازدحام الفظيع، وبسبب انغلاق الآفاق السياسية كلها، إن هذا يزيد التعقيد فالمرحلة هذه لا يمكن أن تمر بسهولة مع احتدام الخلافات من كل جانب وبروز أزمات جديدة كل يوم وانحدار لمستوى التفاؤل على نحو هو الأسوأ منذ قرون. [email protected]