ضج العرب للفيلم المسيء للنبي «عليه الصلاة والسلام» أيما ضجة، وهبوا أيما هبة، وغاروا كما لم يغاروا يوماً، وتنادوا الهدم الهدم، والدم الدم. تخال أنهم يحاذرون قارعة ستنزل من السماء إن هم صمتوا تجاه المسيء للنبي عليه الصلاة والسلام، كأنما يقنعون أنفسهم أنهم يحبون الرسول، ويقنعون الله بحب رسوله من خلال تعاطيهم الدموي والمجافي للمثل. ما حدث ويحدث من تداعيات ورد فعل عنيف بدعوى الغيرة على جناب النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن تفهمه على أنه تدين صرف وحماسة دينية حقيقية بريئة، بقدر ما هو مؤشر على حال من التوهان الفكري الجاثم الذي تأجج بالتوازي مع الثورات العربية المنقوصة فكرياً وسياسياً. ما حدث من عنف وغلواء كان نتاجاً لمقدمات وجدانية وعاطفية متآزرة متراكمة، تجلت على هيئات وأبعاد متباينة لا يكاد يلمحها سوى قلائل من ذوي الدراية والروية، إذ الفعل المتوتر لا يعني توتره أنه متجه لمعالجة ومقاومة حدث أو قضية ما تحديداً بقدر ما هو حال «إسقاط وتفريغ» لحمولات قديمة وانفجار لتحوصلات إيديولوجية واجتماعية واقتصادية تنتظر الفرصة والحدث الأسخن والأنسب لتمارس ظهورها وبوحها، بصرف النظر عن حجم الحدث وحجم رد الفعل المفترض تجاهه، وهل يستحق الحدث التوتر أم لا يستحق؟ فقط هي حال تهيج ظرفية آلت الظهور والبينونة والإعلان. ما حدث من عنف في التعاطي مع «الفيلم المسيء» من خلال الاعتداء على البعثات الديبلوماسية الأميركية في الدول العربية، خصوصاً قتل السفير الأميركي، يُعد مؤشراً تحولياً خطراً لما آل إليه الوعي العربي الجماعي. ثمة ملاحظات على تداعيات قصة «الفيلم المسيء»، أولها: ارتجاج بوصلة الوعي والعاطفة العربية من ناحية قدرة التعامل مع الآخر وتجاوزاته وحسن إدارة الحدث، إذ من يمتلك بوصلة التحكم في العاطفة العربية عادة ليس العربي، بل الآخر الذي وجد العربي حالة من رد الفعل البائس العاجز عن المبادرة والفعل العقلاني، ثانيها: أبان موقف العرب في هذا الحدث «الفيلم المسيء»، كما أبانوا مرات، أنهم يقدمون الشخصيات الأكثر تهيجاً وانفعالاً من «الدعاة»، حتى وإن كانوا من درجة الرموز الدينية «الصف الثاني أو الثالث»، إذ تحول المعيار الجماهيري لقبول المرشد والموجه الديني للأكثر تظاهراً، أو إظهاراً للحماسة الدينية، تفهم ذلك رجل الدين الذي يعد من رجال الصفوف المتأخرة دينياً واعتبارياً وانخرط في ممارسة العاطفة الدينية كتلبية للجموح العاطفي الجماهيري، ليجد رجل الدين ذو الاعتبار والقيمة العلمية والاجتماعية في هذه الأحداث أنه لا يطاع له أمر، وأن السواد ينجفل لغيره الأقل علماً والأقل وعياً ورشداً من الدعاة الذين تخلقوا من رحم العواطف والغلو، هنا نتساءل لم يحضر ويتفرد صوت الغلاة على حساب عقلاء ومميزي العلماء الوازنين عند أي نازلة. لم يهرع الجمهور نحو التحريضيين ويصمّوا عن صوت عقلاء العلماء وعقلاء المجتمع، وماذا يجدون خلف الأكثر جلجلة وتوتراً، برأيي أن بطانة العربي مأزومة عاطفياً ولا تجد ذاتها إلا حيث دعاة الغلو والكراهية الذين يعتمدون العاطفة على حساب روية العقل، ثالثاً: دماء السوريين الأبرياء تُسال كل ساعة، والمذابح تتوالى، مع أن السوريين عنا على بُعد مرمى حجر، كما يجمعنا بهم الدين والعروبة والقرابة، مع ذلك لم نجد جزيئاً من تلك الغيرة أمام السفارات السورية، كما لم نجد مثل ذلك أمام السفارات الروسية والإيرانية المتآمرة على الذبح المنهجي للسوريين، السؤال إن كانت قصة الغيرة تديناً، فأين هم من الغيرة على دماء السوريين، أم يكتفون بالغيرة على الدم السوري من خلال «تغريدات تويترية»، ما لهم كيف يحكمون ويتحمسون، رابعاً: بعض الأحداث تجلي مدى تغلغل الفكر التطهري القاعدي وتغوره داخل أعماق الأعماق حتى وإن يدعي خلافه. «الحصاد» من يحرك العاطفة العربية هو من سيتحكم بها وليس من يخاطب العقل. وعي العرب العميق تشوه كثيراً وما عاد يشاهد الواقع إلا من خلال خرائط الجذريين بسبب الصدمات التاريخية والاقتصادية والسياسية التي جعلته لا يجد ذاته إلا في خطاب هؤلاء، تهرع الحماسة الدينية لنماذج من نصوص الكراهية التي تركها علماء أقدمون متجاوزون نص الله ونص النبي الكريم الأخلاقي. هناك فرز نشاز في تمييز ماهية التجاوز والمتجاوز «جنسية وعرق المتجاوز نموذجاً»، تحدد حجم رد الفعل، يستحق حبيبنا عليه الصلاة والسلام الغيرة، لكن بحسب ما علمنا من خلق ولغة راقية، حتى فقه المعاهدين وأهل الذمة، شمله الاختراق والتشويه تحت مبرر خارجي. * كاتب سعودي. [email protected] abdlahneghemshy@