قد يكون كتاب «نادجا» النص الأشدّ «غرائبية» بين أعمال الشاعر الفرنسي أندريه بروتون (1896-1966)، ليس بجوّه السوريالي الممعن في نزعته الفانتاستيكية فقط، وإنّما في هويته التي لا يمكن إدراجها في خانة «النوع» الأدبي. هذا نصّ لا يخضع لأي معيار تصنيفي، نصّ بلا حدود، مفتوح على «الصدفة الموضوعية» التي نادى بها السورياليون، ولعلّ بروتون نفسه شاءه بمثابة شهادة على الحال «الذهنية» الفريدة والحية دوماً التي تتمتع بها السوريالية. إنه النص الذي يجسّد تجربة البحث عن «واقع أعلى» هو وليد امتزاج الواقع والحلم امتزاجاً كيميائياً عميقاً. كانت نادجا، «بطلة» هذا النص، أكّدت للكاتب، قبيل اختفائها الذي انتهى بها في المصح العقلي، أنّه سيكتب عنها قائلة له وكأنها تلزمه بوصية: «ستكتب رواية عني. أؤكد لك ذلك. لا تقل لا». ولم يكن على بروتون إلا أن يلبّي هذه الوصية، تبعاً لافتتانه بهذه المرأة الغامضة، التي ظلّت له بمثابة السرّ الذي لم يجد له تفسيراً. إلا أن وصية نادجا أحرجته وأربكته، فهو لا يميل البتة الى الرواية ويعتبر أنها فنّ آيل الى الاختفاء و «باتت أيامه معدودة». ويسمي الرواية، بما يشبه السخرية، «الأدب السيكولوجي القائم على الحبكة الروائية». ويهزأ من ادعاء الروائيين خلق الشخصيات وطبعهم إياها ب «سمات جسمانية ونفسانية على طريقتهم»... ويقول إنّ «لا جدوى من محاولة معرفة الغاية من وراء ذلك». ويعترف أن كتابه «نادجا» الذي يسمّيه ب «القصة» أراده متميّزاً «عن كلّ اختباريّي الرواية الذين يدّعون أنهم يقدّمون شخصيات مختلفة عن ذواتهم». ومَن يقرأ بيان السوريالية والنصوص النظرية التي كتبها بروتون يدرك سرّ رفضه للرواية، كنوع أدبي. فالكتابة «الآلية» و «الصدف» و «البروق» و «الوقائع بطابعها اللامتوقع» تمثل الغاية التي يطمح اليها الأدب والتي تعمل الرواية على نفيها. وعلى رغم هذا الموقف العدائي من «الرواية»، فهو لن يثني نفسه عن مقاربتها ولكن على طريقته «المضادة» أو «اللاروائية»، مبتعداً كلّ الابتعاد عن الوصف الذي وسمه ب «العديم القيمة» في البيان السوريالي. وهو استعاض عن الوصف في هذا الكتاب بالفنّ الفوتوغرافي، فأرفق النص بصور كثيرة، بدت كأنها قائمة في صميم النص ومندمجة في إيقاعه النثري ومتمّمة لوقائعه. وفي مواجهته فن السرد، تبنّى ما يسميه «أسلوب الملاحظة الطبية» المعتمد، كما يقول، في مجال الطب العقلي – العصبي، والخالي من أي «زخرف اسلوبي» بل القائم على «التقشف» الأسلوبي و «اللاأسلوبية». ولئن كان بروتون أصدر هذا الكتاب عام 1928 في أوج انطلاقة الحركة السوريالية، فهو ما لبث أن أصدره في طبعة ثانية «منقحة» عام 1962، وفيها عاود النظر في النصّ وأعمل قلمه في بعض المقاطع. وبرّر هذه «الفعلة» في اعتباره أنّ ليس من الممنوع على الكاتب «أن يسعى الى جعل بعض تعابيره أكثر ملاءمة وانسياباً». ويردّ بروتون مسبقاً على سؤال يُطرح دوماً حول هذا «التدخل» قائلاً: «بعد خمسة وثلاثين عاماً، وهي مدّة قمينة بأن تسم الأشياء ببعضٍ من آثار القدم، فإن قراري ايلاء قليل من العناية للمكون الموضوعي في «نادجا» لا ينمّ إلا عن بعض الاعتبار لتحسين صيغة القول». وهذه الذريعة قد تقنع ولا تقنع في آن، فالمسألة هذه، مسألة معاودة النظر في نص منشور، لا تزال موضع خلاف لا ختام له. النص «الطارئ» ليس من المستهجن وصف نص «نادجا» ب «الفريد» و «الغريب» و «الطارئ» في المعنى الذي يسم به بروتون الكتابة. فهو نصّ لا يحدّد لنفسه بداية ولا نهاية أيضاً. وإن بدت بطلته هي «نادجا»، هذه المرأة التي تعرّف اليها بروتون صدفة أو رآها «بغتة» كما يعبّر، فهو – أي النص – لا يقتصر عليها، ولا يُختصر بها. بل قد تبدو هي أشبه ب «أيقونة» يدور النص حولها، ينطلق منها ثم يتوزّع ليعود اليها. ولعلّ مدخل النص – لئلا أقول المقدّمة – قد يفاجئ القارئ بطابعه المتنوّع والمتعدّد و «المبعثر» (قصداً). ففي هذا «المدخل» يستعيد بروتون بضع ذكريات وبضعة وجوه ويناقش أفكاراً وقضايا تصب في صميم حياته وفي قلب الحركة السوريالية، ناهيك عن باريس التي تحضر بشدة، بساحاتها وواجهاتها ومكتباتها ومقاهيها، حتى ليبدو النص في أحيان أشبه بخريطة جغرافية، وواقعية وغامضة، لهذه المدينة الساحرة. ثمّ يركز على عرض مسرحي عنوانه «المختلتان» ويمعن في الحديث عنه واستعادة أحداثه والشخصيات، وفي تحليله أو نقده. وقد تفاجئ هذه الصفحات غير القليلة القارئ نظراً الى خروجها (الظاهر) عن سياق النص. أما نادجا، فلا تظهر «فعلياً» إلا بدءاً من الصفحة 67 (يتألف الكتاب من 181 صفحة)، وتحديداً في الطريق الى ساحة «الأوبرا» انطلاقاً من شارع «لافاييت». كانت هذه المرأة الشابة لفتت الكاتب بجمالها، و «ملابسها التي تنمّ عن فقر شديد». هزيلة، لا تكاد تلامس الأرض في مشيها. و «ربما ثمة ابتسامة غير بادية تماماً تشي بها ملامح وجهها». ويعترف: «لم أكن قطّ رأيت مثل تينك العينين». يكلّمها بعفوية، تبتسم ولكن بغموض. ثم تعترف له بأنها تتمشى من غير هدف. هكذا تطلّ «نادجا» في سياق النص. لقاء يتمّ بالصدفة، لكنه لن يكون عابراً أو عارضاً. وعندما تقول له اسمها، الاسم الذي اختارته لنفسها، «نادجا» تعترف له بأن «نادجا، هي بداية كلمة أمل بالروسية». شابة، جاءت الى باريس من مدينة «ليل» وفي حوزتها رسالة توصية الى رئيسة دير راهبات «فوجيرار»، لكنها، كما تسرّ الى الكاتب، لم تستعملها بتاتاً. وبعد أن تخبره عن ابيها وأمها، تتحسّر على أمها وعلى نفسها: يا للأم المسكينة التي لا تعلم ماذا تفعل ابنتها في باريس. هذه الشابة التي انتقلت الى باريس سلكت طريق «الماخور» عوض الدير، لتصبح مومساً تمارس «الدعارة المرفّهة» في الفنادق... وبعد أن يتعرّف الكاتب إليها جيداً، كشخص ذي ماضٍ وحاضر متناقضين، يشعر أنه لم يُحط بها ولم يعرفها كما يجب. إنها امرأة سرّية وغامضة. وستظل هكذا. ولن يتوانى تالياً عن سؤالها: مَن أنتِ؟» وأجابته مرّة: «أنا الروح الهائمة». ولعلّ هذا الغموض هو ما زاد من تعلّقه بها وحبّه إياها، مع علمه المسبق أنّ حبّاً كهذا لا مستقبل له. تقول له مرّة أيضاً: «أنا الفكرة على ماء الحمام في حجرة بلا مرايا»... وعندما يقدّم لها كتابه الشهير «الخطى الضائعة»، تقول له: «الخطى الضائعة؟ ليس هنالك خطى ضائعة»... وبعد أن تتعمّق علاقته بها يكتشف وجهها الآخر، يسمّيها «الساحرة». تطلعه على رسوم لها حافلة بالرموز والإشارات، تخبره عن أمور واجهته سابقاً وتتوقع له أموراً تحدث لاحقاً. ومرّة تفاجئه بسردها وقائع من كتاب قديم مجهول يستحيل أن تكون قرأته. يُصدم الكاتب ويقول: «أعترف بأنّ الخوف بدأ يتملّكني في هذه اللحظة». النار والماء يشعر أندريه بروتون أنّه أمام امرأة سرّية وملغزة، يستحيل سبر غورها. امرأة ساحرة، رسامة وشاعرة من غير أن تكتب، شخصية سوريالية بامتياز، تقرأ الغيب ما قدّر لها أن تقرأ، شاردة الذهن حيناً، متوقدة حيناً، لا تهتم بما يُسمى وقتاً أو زمناً. وكم كانت تفاجئه، خلال الأيام التي أمضياها معاً متجوّلين في أحياء باريس، بجمل تلفظها، تفيض دهشة وغرابة. تقول له مرّة: «هذه اليد، هذه اليد على نهر السين، لمّ هذه اليد المشتعلة على الماء؟ النار والماء شيء واحد». ومرّة تقول له: «يا للهول! أترى ما يجري وسط الأشجار؟ الزرقة والريح، الريح الزرقاء». وبعد أن يفترقا وتُساق هي الى المصحّ بعد اتهامها بالجنون، إثر تصرّفات نابية أقدمت عليها في الفندق الذي تقيم فيه، لا يبقى له إلا أن يحيا في ذكراها. وكان يصرّ على استعادة الجمل الغريبة التي كانت تقولها باستمرار، ومنها: «مخلب الليث ينضمّ على ثدي الكرمة»، «أمام الغامض الملغز، يا إنساناً من حجر، إفهمني»، «لمّ هذا الميزان الذي تترجّح كفّتاه في ظلمة حفرة ملأى بكرات فحم»... أما مسألة اتهامها بالجنون وحجزها في المصحّ فيعترض بروتون عليها، معتبراً «كلّ احتجاز تعسفياً». ويقول: «ما زلت لا أفهم ما الذي يمكن أن يدفع الى حرمان كائن بشري من الحرية. لقد حبسوا ساد، حبسوا نيتشه...». ثم يضيف: «أعرف بأنني لو كنت مجنوناً ومحتجزاً... لاستغللت لحظة ارتياحي... لأغتال بدم بارد واحداً من محتجزيَّ الذين يمكنني أن أطاولهم». وهذا الاعتراف ينمّ عن موقف بروتون والسورياليين من حجز المجانين الذين يعتبرونهم هم الأصحاء وقد دعوا الى إطلاق سراحهم من المصحات. لا تغيب نادجا عن حياة بروتون ولا من ذاكرته والمخيلة، فهي ليست امرأة من لحم ودم، بقدر ما هي «روح حرّ، شيء شبيه بإحدى جنيات الهواء». ويخاطبها بُعيد حجزها وقبيل أن يستعيد إيقاع حياته السابقة، مخاطبته شبحاً أو طيفاً قائلاً: «مَن هناك. أهي أنت، نادجا؟ أصحيح أن العالم الآخر، كلّ العالم الآخر، هو في هذه الدنيا؟ إنني لا أسمعك. مَن هناك؟ أأنا وحدي؟ أأنا نفسي؟». كتاب «نادجا» كتاب فريد حقاً، بجوّه الملتبس بين الواقعي والحلمي، بفضائه الحرّ والمفتوح على المصادفات، كتاب متحرّر من أسر النوع يدمج بين الكتابة والنظرية، بين المتخيّل والمفكّر به. نصّ معقد ومركّب، هو خير دليل على ديمومة الكتابة السوريالية، التي تتجلّى هنا أجمل تجلّياتها بعيداً عن «الفخاخ» التي نصبها السورياليون داخل اللغة، وعن «الألاعيب» المجانية التي لم تكن مبرّرة. وختاماً لا بدّ من التنويه بترجمة النص، التي أنجزها الشاعر المغربي مبارك وسّاط، والتي نجح خلالها في مواجهة لغة بروتون المنسوجة بمهارة وسحر، وفي التصدّي لهذا النصّ المعقّد الذي يفترض تعريبه جهداً وتؤدة. ومن يقارن الترجمة بالأصل الفرنسي يدرك كم أن المترجم تمكن من صوغه بمتانة وشاعرية. (دار الجمل، 2012).