تنطلق خلال الأيام القليلة المقبلة عروض وتظاهرات بالجملة لأقطاب المدرسة السوريالية. تحتفي بهم أشهر متاحف الفن المعاصر في مدن ثقافية فرنسية ونمسوية وبلجيكية وسويسرية وسواها. تستعيد جميعها إحياء التيّار السوريالي وهذيانات رواده، من سلفادور دالي وماكس إرنست إلى تانغلي وماغريت وأندريه ماسون عبوراً بالمحدثين فيهم أمثال لام ودادو وميشو وغوركي وفوليامي. يؤكّد إحصاء جديد بمناسبة هذه التظاهرة أن «الاتجاهين الفنيين الأشد شعبية في فرنسا هما الانطباعية والسوريالية». جاء هذا بمثابة الرد النقدي على دعوى أن إحياء السوريالية ضرب من الإفتعال الثقافي والتسويقي، وأنه تيار تحول بأفكاره وفنانيه إلى جثة هامدة بعد ما يقرب من القرن من تأسيس السوريالية في باريس من قبل الشاعر أندريه بروتون عام 1920. كان تأثير ميادين التحليل النفسي والحماسة الفنية لفرويد ويونغ في اوجه آنذاك. وكثر الحديث عن خصوبة اللاوعي وحلم اليقظة والهذيان والطفولة وغيرها من العواطف المكبوتة أو الروحية الباطنية. لعل أبرز هذه المعارض هو المعرض الإستعادي الذي تقدّمة مؤسسّة «بايلر» في مدينة بال (سويسرا)، وتحت عنوان «السوريالية في باريس» حتى نهاية الشهر الجاري، ثم معرض «مارغريت» في متحف فيينّا حتى نهاية شباط (فبراير). ثم معرض «خوان ميرو وعصره» في متحفه الخاص في برشلونة (اسبانيا) حتى نهاية آذار (مارس). أما «متحف البوزار» في مدينة بيزانسون الفرنسية، فيعرض أحد نجوم الجيل الثاني وهو الاسم غير الشائع جيرار فوليامي (مات في عام 2005 عن عمر ناهز 96 سنة). شارك في الحركة السوريالية ما بين عام 1931 و 1945. واختص بسوريالة الأسطورة. (يستمر العرض حتى الثاني من نيسان /ابريل). احتك فوليامي مع أندريه بروتون وبول ألوار، مشاركاً السوريالية طموحها من طريق التوليف بين جيروم بوش وبيكاسو وميرو، ومنجزاً عام 1946 كتاب غرافيكي: «بيت المجانين». أما متحف مدينة نانت الفرنسية، فيعرض «الغرابة المقلقة» مستعيراً التّعبير الفرويدي نفسه، والذي يُشير إلى علاقتنا البسيكولوجية الغامضة الملتبسة بموجودات الواقع المحسوس، لأن إدراكنا له يرتبط بالتأويل الذاتي. (مستمر خلال كانون الثاني). يعبر المعرض عن سلطة «الصورة»، مقارناً بين الصور السوريالية ومثالها تانغي وبعض رواد الفن التشكيلي منذ أنغر وصولاً حتى ميساجي عبوراً بشيساك. من دون أن ننسى تحقيق عدد من الكتب والتسجيلات السمعية - البصرية (ال DVD) عن بعض أقطاب السوريالية، أبلغها عن ماركس إرنست وهو بصوته قبل وفاته عام 1991، طبعته مؤسسة بايلر، ثم هناك كتاب بالغ العناية عن سلفادور دالي وعن بانوراما أعماله بين عامي 1904 و 1989، بعنوان «اختراع جنون الأنا» في 300 صفحة (دار النشر فلاماريون). كتب النص الناقدة المعروفة كاترين غونييه، ويعتبر هذا الفنان بنرجسيته، دونكيشوت السوريالية، والكتاب يمثل مقدمة لمعرض ذكرى مئوية ولادته في خريف هذا العام في متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو في باريس. لو تابعنا أفكار الناقد ديدييه تتينجر بصفته محافظ متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو، أي صاحب السلطة الفنية الأولى في باريس وفرنسا (وقد يكون في أوروبا والعالم أيضاً)، أقول من يتابع تحاليله عن السوريالية يظن ببساطة أنه يقع خلف إعادة بعث هذه التظاهرة الميتافيزيقية، بخاصة أن المركز ليس بريئاً من إثارة هذه الموجة العصبية، فالمعرض القائم الآن بمادة الفوتو أو الصورة الضوئية يمثل شرحاً للمعنى الصوري (وليس التصويري) في السوريالية، ثم قدرة هذه الصورة التحريضية على الإثارة الأدبية الدلالية. لنتذكر مثلاً ماغريت في اللوحة التي تصوّر غليوناً وكيف كتب فيها عبارة صريحة: «هذا ليس غليوناً». يحتارالمتفرج في هذه الحالة: ماذا يقع إذاً خلف الصورة؟ اختار المركز لمعرضه هذا العنوان: «السوريالية وشعر الأحلام». لكن أبرز أسباب نجومية الناقد المذكور في موضوعنا الراهن هو إعلانه في أكثر من مناسبة وفي أبرز المجلات النقدية عن فحوى مشروعه السوريالي المؤجل حتى بداية موسم العام المقبل بالتعاون مع متحف واشنطن وهو أن المعرض سيختص بالنحت السوريالي تحت عنوان: «تحديات النحت» في استدعاء لمعرض من عام 1930 بعنوان «تحديات التّصوير»، وكأن السوريالية تحتكر هذا التحدي المغامر! وعندما نعبر إلى تفاصيل معرض العام المقبل نجده ألحق بالنحت السوريالي أعمال «الريدي مايد» أو «التجهيز المسبق» الذي اكتشفه الدادائي الأول مارسيل دو شامب ونقله من باريس إلى نيويورك، وقبل أن يستعيره نحت بيكاسو، فيجعل من مقود الدراجة قرناً للثور معتمداً على الالتباس الصوري والدلالي من جديد. إن رحابة سلطة السوريالية الراهنة واحتلالها لجزء من الدادائية وبيكاسو وسواهما يؤكد عولمية هذه التظاهرة (التي وصلت عروضها متحف بريسبان في أستراليا) والتي تدعونا بقوة النقد والإعلام إلى إعادة اكتشاف السوريالية والخضوع لارتفاع بورصة أسعار تسويقها في المزادات العالمية والمجموعات الخاصة أو في المتاحف.