في مجرى سنة ونصف من عمر أزمة سورية، بدأت بدرعا في 18 آذار (2011)، مرت المعارضة السورية بثلاث مراحل: 1- مراهنة على الحراك الشعبي السلمي لتحقيق الأجندات السياسية، وإن اختلف المعارضون آنذاك بين ضفتي التغيير وإسقاط النظام، وبخاصة بعد حزيران (يونيو) 2011. 2- بعد أن اكتشف معارضون أن الحراك لا يملك الآلية الذاتية الكافية لتحقيق ما جرى في تونس ومصر، تشجع الكثيرون منهم، وبالذات منذ أيلول وبعد أيام قليلة من سقوط القذافي في 23 آب (أغسطس)، على المراهنة على التدخل العسكري الخارجي لتحقيق الأجندات التي عجز الحراك بالوسائل المحلية عن تحقيقها. 3- منذ حزيران 2012، وهذا كان واضحاً عند الكثير من المعارضين في مؤتمر القاهرة (2-3 يوليو) الذين رفضوا تضمين البيان الختامي تأييداً لمؤتمر جنيف (30 يونيو) الذي توافقت فيه الدول الكبرى على تسوية للأزمة السورية، بدأ اتجاه جديد، إثر اليأس من جلب التدخل العسكري الخارجي، يقول بأننا «سنأخذ الأمر بيدنا عبر السلاح»، وكان ما جرى في دمشق وحلب نتيجة عملية لهذا التفكير المستجد عند الكثير من المعارضين السوريين. خلال ثمانية عشر شهراً، من الواضح احتراق هذه الأفلام الثلاثة: في البلدان التي جرت فيها ثورات وانتفاضات، خلال عام 2011 مثل تونس ومصر وليبيا واليمن، كان أداء المعارضات في تلك البلدان أفضل مما جرى في سورية، وهذا يخلق مفارقة بين أوضاع المعارضة السورية في عامي 2011 و2012، في أثناء أخطر أزمة مرت بها البلاد منذ يوم جلاء الفرنسيين في17 نيسان (أبريل) 1946، لجهة هذا المستوى الضعيف والفاشل من الأداء والحصيلة، وبين الحياة السياسية السورية خلال مجرى القرن العشرين التي كانت الأكثر إنتاجاً للأفكار السياسية العربية الكبرى (ساطع الحصري- ميشال عفلق- مصطفى السباعي- ناصر الدين الألباني- ياسين الحافظ) والأكثر توليداً للقامات السياسية التي يتجاوز تأثيرها الحدود القطرية العربية (خالد بكداش، مثلاً). هذا الانخفاض في مستوى الأداء السياسي كانت نذره ملموسة منذ بداية مرحلة ما بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد في يوم 10 حزيران 2000، لما تم الانتقال في رسم البرامج والسياسات من منطق التوازنات «وإدارة الممكنات لتحقيق الأجندات السياسية» إلى منطق «بناء السياسات بدلالة الآخر»، الذي أصبح في وضعية مشابهة لقول ماركس عن بسمارك بعد تحقيق الوحدة الألمانية في عام 1871: «إنه يقوم بجزء من عملنا». بين عامي 2000 و2002 كانت المراهنة عند غالبية كاسحة من المعارضين السوريين على «إصلاحية القصر»، في وجه ما سمّوه ب «الحرس القديم»، لتحقيق أجندات التحول الديموقراطي. لما خابوا، قام الكثيرون منهم بالمراهنة على «آخر» تمثل في الأميركي الغازي والمحتل لبلاد الرافدين منذ يوم 9 نيسان 2003، وقد اتجه الكثير من المعارضين السوريين، أقلية بنصوص وأكثرية شفهية، نحو التفوه بمقولات مثل «نظرية الصفر الاستعماري» و «الاستعمار أفضل من الاستبداد»، وبدأ البعض، وبخاصة من الماركسيين المتحولين نحو الليبرالية، بالتذكير بمقولة ماركس «حول تقدمية الاستعمار البريطاني للهند». كان الانتقال نحو المراهنة على «الآخر» الأميركي لما انتقل الأخير إلى الصدام مع النظام السوري منذ زيارة وزير الخارجية الأميركي لدمشق بعد ثلاثة أسابيع من احتلال العراق، وقد كان لافتاً أن الكثير من المراهنين في المرحلة الأولى على «إصلاحية القصر» كانوا هم أنفسهم من راهن «على هبوب رياح غربية على دمشق» مثلما حصل لبغداد ولو عبر سيناريوات مختلفة. هذا الشيء الأخير كان تجسيده في صيف وخريف 2005 مع بناء السياسات، من خلال إنشاء «إعلان دمشق» (16 تشرين أول/ أكتوبر 2005)، على إيقاع الرياح اللبنانية والتي ظنَت غالبية ساحقة من المعارضين السوريين (بمن فيهم الناصريون والإسلاميون) بأنها كما أدت إلى تغيير في المشهد اللبناني ستقود إلى مثيل دمشقي له، من دون أن يستوعبوا بأن الولاياتالمتحدة الأميركية لم تستخدم الحلبة اللبنانية «لتغيير النظام السوري، وإنما لتغيير السلوك» وفي مجالات ليست سورية، وإنما تتعلق ب «حزب الله» وحركتي «حماس» و «الجهاد» وبدعم دمشق لفصائل المقاومة العراقية. خلال عامي 2006 و2007 كان واضحاً احتراق فيلم «إعلان دمشق»، وقد اتجه الكثير من رموزه، في عامي 2008 و2009 نحو المراهنة على «آخر» جديد، هو الانفتاح الغربي على دمشق كما في بيان، صدر في 5 أيلول 2008 لدى زيارة ساركوزي إلى دمشق، قالت فيه الأمانة العامة ل «إعلان دمشق»، وبعد أن ظلت ثلاث سنوات تقول ب «انتهاء صلاحية النظام السوري»، بأن «إعلان دمشق... لم يكن في نهجه وليس من أهدافه تعزيز عزلة النظام ومحاصرته، بل إن مشروعه الديموقراطي يركز أساساً على الدفع نحو انفتاح النظام على الشعب السوري قبل أو بالتزامن مع انفتاحه المطلوب على العرب والعالم» (نشر البيان يوم 6 أيلول 2008 على موقع «كلنا شركاء»). أيضاً كان هذا الخط الجديد خارج المرمى كسوابقه. خلال عشر سنوات، بين عامي 2000 و2010، يمكن رؤية نفس المعارضين السوريين في الأطوار الأربعة المتناقضة المذكورة آنفاً، وهم أنفسهم، ولو مع بعض القادمين الجدد للمعارضة في ربع الساعة الأخيرة، أبطال الأطوار الثلاثة لمرحلة ما بعد 18 آذار (مارس) 2011: هذا الانخفاض في مستوى الأداء السياسي لم يكن موجوداً عند المعارضة السورية، بمختلف تياراتها وفصائلها، في زمن حكم الرئيس حافظ الأسد حيث أنتجت أفكار سياسية كبرى متجاوزة للنطاق السوري نحو العربي، كما في مرحلة أزمة وانشقاق الحزب الشيوعي السوري في أعوام 1969-1972 بين «جناح بكداش» و «جناح المكتب السياسي» لما طرحت أفكار تبيئة الماركسية عربياً من خلال مزجها بقضايا محلية مثل (الوحدة العربية) و(فلسطين) و(الأوضاع الملموسة لكل بلد عربي)، أو لما طرح الحزب الشيوعي- المكتب السياسي في عام 1978 ضرورة تطليق مقولات (الديموقراطية الثورية) و(الديموقراطية الشعبية) لمصلحة مقولة (الديموقراطية) بمعناها البورجوازي. من الضروري البحث عن الأسباب في هذا الانخفاض لمستوى المعارضة السورية، الذي اقترب من مستوى الفضيحة في عامي 2011 و2012: معارضون، بمختلف اتجاهاتهم الإسلامية والعروبية والماركسية، ألحق بهم النظام هزيمة أمنية - تنظيمية استطاعت تجريد هذه الأحزاب والتنظيمات منذ شهر شباط (فبراير) 1982، وإثر هزيمة المعارضة المسلحة بمدينة حماة، من البحر الاجتماعي الذي كانت تسبح به بقوة في السبعينات وذلك بعد دخول المجتمع السوري في مرحلة ما بعد حماة في صيام عن السياسة لم يكسر إلا في درعا. بحث الدكتور جمال الأتاسي، في رسالة (كانون الأول) 1989 صاغتها معه قيادة (التجمع الوطني الديموقراطي)، عن حلول لذلك تمثلت في تنزيل سقف الأجندات السياسية من (التغيير)‘ إلى (الإصلاح)، فيما بحثت قيادة (الإخوان المسلمون) عن حلول عبر المصالحة مع النظام استغرقت جولاتها المتعددة ووسطائها العرب الكثر أعوام 1987-1997. لم يؤد الضعف السياسي آنذاك إلى «بناء السياسات بدلالة الآخر»، وإنما إلى تخفيض السقوف بحسب التوازنات، أو إلى طرق التفافية على الضعف التنظيمي كما حاول (الإخوان) في الثمانينات والتسعينات ثم عادوا من جديد لمحاولات المصالحة مع النظام، بعد خيباتهم مع «إعلان دمشق» و«جبهة الخلاص»، في كانون الثاني (يناير) 2009 أثناء حرب غزة لتأمين «بحر اجتماعي» لسمك تنظيمي- سياسي هو خارج الماء منذ شباط 1982. عندما وجد هذا الماء الاجتماعي مع درعا، لم تتقن تلك السمكات القديمة الغوص والعوم: دخل ملايين من السوريين إلى السياسة، معارضون وموالون ومترددون وهم في الحقيقة ما زالوا بعد سنة ونصف ثلاثة أثلاث، لم تستطع تلك التنظيمات السياسية جميعها لما قفزت في ذلك الماء أن تؤطرها أو تنظمها أو تقودها، وهذا ينطبق على كل الاتجاهات، ولو مع نجاح نسبي للإسلاميين. في الواقع حصل العكس، انقادت المعارضة الحزبية السورية القديمة وراء التيار ولم تكن في قيادته أو أمامه، وقد نشأت نزعة شعبوية تقول بأن البرنامج السياسي يبنى على إيقاع «الشعب يريد» عند تنظيمات إسلامية وعروبية وماركسية كانت كلها تقول ب «تصدير الوعي السياسي عبر طليعة» إلى أفراد المجتمع التي كانت كل تلك التنظيمات تقول بأنه لا يتجاوز وعيه المستوى العفوي، وعندما سقط الاتحاد السوفياتي اتجه الكثير من الماركسيين السابقين في مرحلتهم الليبرالية الجديدة من (نظرية الطليعة) إلى (نظرية التنوير) التي كانت تفترض رسالة تنويرية عند المثقف والسياسي يشي إضمارها بأن «الظلامية» و «الجهل» هي في مكان العفوية في نظريتهم الطليعية السابقة. في تلك الأيام كان الكثير من المثقفين والساسة السوريين يقابلون بالسخرية والاستهزاء كلمات (الشعب) و(الثورة). الآن هم أنفسهم يبنون سياساتهم بدلالة «الآخر» الذي يفترضون أنه «الشعب» في «الثورة»، من دون أن يدركوا، أو لا يريدون وعي ذلك، بأن الشعب منقسم بعمق وبأن الحراك الاجتماعي السوري المعارض لم يصل إلى مستوى تحقيق شروط (الثورة) وإنما أنشأ أزمة عامة سورية، وأيضاً أزمة دولية- إقليمية، يمكن أن يبنى عليها لتحقيق أجندات التغيير السوري. هؤلاء وصل الشطط (وربما شيء آخر) بهم إلى الظن بأن البرنامج السياسي هو في حالة تماهي مع الشعارات التي تطلق في تظاهرات سياسية، والبعض الآخر أبعد من ذلك عندما قال بأنه «في الثورات لا توجد سياسة، وإنما شعارات وتظاهرات وحراكات وإغاثة»، وكأن ميرابو وروبسبيير ولينين كان محلهم من الإعراب هكذا في الثورتين الفرنسية والروسية. في عامي 2011 و2012 لم تكتف المعارضة السورية المنظمة القديمة ب «بناء السياسة بدلالة الآخر» الذي كان هو الحراك وإنما انقادت وراءه بدلاً من أن تقوده، كما أن دخول موجات وأجيال جديدة إلى السياسة من دون خبرة ووصول بعضهم إلى القيادة السياسية، قد جعل هذا الانقياد، وتلك النزعة الشعبوية، يجتمعان في مزيج آل بالمعارضة السورية إلى حصيلة لا ترتقي إلى مستوى الفعل الاجتماعي المعارض البادئ منذ 18 آذار 2011. * كاتب سوري