لم تكن الانتفاضة السورية مفاجئة للنظام السوري وحسب، بل كانت كذلك للمعارضة التقليدية أيضاً. يظهر هذا من خلال الحضور المتأخر والهزيل لهذه الأخيرة في مواكبة وقائع الانتفاضة وأهلها. وفشل المعارضة السورية في ردم الهوة التي تفصلها عن السوريين والدخول إليهم من بوابة الانتفاضة - وهي هوة كان يعتقد أن القمع يكاد يكون سببها الأوحد - يعكس أزمتها العميقة على صعد عدة تطاول بنيتها وتنظيمها وفهمها لواقع حال السوريين والنظام الذي يحكمهم. ومع تفوق أخلاقي يسجل لها على هذا الأخير، تبدو أن هذه الهوة بينها وبين السوريين لا تقل مسافة عن تلك التي تفصل النظام عنهم. ودافعنا إلى هذا القول الأخير عوامل كثيرة، لعل أهمها، أن الأهداف والشعارات التي أطلقتها الانتفاضة السورية وتسعى إلى تحقيقها، تكاد تكون متطابقة مع ما نادت به المعارضة، منذ أكثر من عقد على أقل تقدير؛ وهو ما قد يوحي، نظرياً، بسهولة الالتقاء بين الطرفين، لكن ذلك لم يحدث! لقد نجح النظام، حتى الآن، في اختراق بعض الفئات الاجتماعية والنخب الثقافية، وتحويل جزء منها إلى قاعدة اجتماعية له، وتحييد الجزء الآخر وتفويت فرصة انضمامه إلى صف المحتجين، على رغم أن غالبية هؤلاء ليست من المستفيدين أو الموافقين بالضرورة على سياساته، خصوصاً الاقتصادية منها. الوسائل التي اتبعها النظام لأجل ذلك كثيرة، لعل الخوف أهمها. فإذا كان الخوف مفهوماً وهو النظام الباطش الذي لا يرحم، فإن خوفاً من نوع آخر، ناجم عن انعدام الثقة بين الفئات المكونة للاجتماع السوري، والذي عمل النظام على تكريسه منذ عقود، كان له الثقل الأكبر في عمليتي الاستقطاب والتحييد. أما المعارضة فقد فشلت في النزول إلى ساحة لم تكن تحلم بمثلها بعد سنوات التهميش والعنف التي عاشتها، وهو ما يوحي بعزلة أشد من السابق، وبأزمة أكثر عمقاً مما كنا نعتقد. ربما لا نبالغ إذا قلنا إن الأزمة بين المعارضة السورية والسوريين تجد أصولها في تاريخ سابق يعود إلى بدايات تشكلها. حيث إن الخيارات الأيديولوجية التي انتظمت قوى المعارضة في فضائها، كانت تتيح لهذه الأخيرة أن تكون طليعة في مجتمع يعجّ بالأهواء والأخطاء والأعداء. وهو ما تضمن تصوراً فوقياً في التعامل مع هذا المجتمع يكمن أساسه في عملية نقل «الوعي الصحيح» من «خارج» هذا المجتمع، أي من الطليعة المنفصلة عنه. تطاول صفة «الخارجية» المعارضة السورية أيضاً كما تطاول النظام، وإن في سياقات تختلف إلى هذا الحد أو ذاك. فإضافة إلى ما أتاحته الطليعية من «خروج وانفصال» عن المجتمع كما أشرنا؛ كرست الانتماءات الأيديولوجية (الإسلامية والقومية والشيوعية) تخارجاً من نوع آخر، عبر إلحاق المجتمع السوري بمشاريع كبرى تتجاوزه، ولا تنظر إليه إلا على أنه «جزء» من «كل» تنبغي استعادته أو السير لتحقيقه (الأمة الإسلامية، الأمة العربية، الأممية). لقد كانت المعارضة السورية، جغرافياً، على الأرض السورية، أما أيديولوجياً فهي تنظر وتسعى إلى ما يتجاوزها وينفيها. ثمة «خارجية» من نوع مغاير ظهرت مع تلك الدينامية التي بدأت مع «ربيع دمشق». وعلى رغم أن مناخاً عالمياً بعد انهيار الاشتراكية ومعسكرها ودخول أهلها ومقولاتها في أزمة، يكمن وراء الجاذبية المتزايدة لمقولات الديموقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني؛ إلا أن اللحظة الحاسمة في انطلاق ربيع دمشق كانت لحظة «داخلية»، وجدت في وفاة الرئيس حافظ الأسد وتولي ابنه الشاب مقاليد الأمور، الفرصة لفتح ما تم إقصاؤه من ملفات على مدى عقود، كالفساد والديموقراطية والحريات. إثر ذل انطلقت المنتديات لتعم أرجاء البلد الذي لم يشهد منذ عقود أي حوار بين نخبه أو أبنائه. لقد كان «ربيع دمشق» حالة نخبوية صنعها مثقفون وسياسيون قادمون من غياهب السجون أو الصمت. لم يمهل النظام هذا الربيع، فتعرض القائمون عليه للسجن والملاحقة وشتى ضروب العنف. وستنتظر المعارضة السورية لحظة دولية «خارجية» وفّرتها أحداث 11 أيلول وما بني عليها، أو تلاها من وقائع (كاحتلال العراق واغتيال رفيق الحريري وخروج السوريين من لبنان إثر ذلك). إذّاك قرأت المعارضة السورية أن مزاجاً تغييرياً دولياً يسير باتجاه تغيير النظام السوري أو الضغط عليه لتغيير سلوكه، فما كان منها إلا أن سارعت لتنظيم صفوفها، أواخر 2005، عبر تحالف سيكون الأكبر والأكثر تنوعاً في تاريخ المعارضة السورية، سيطلق عليه «إعلان دمشق». غاية هذا التحالف هو الحد من آثار الفراغ السياسي الذي سينجم في حال أصبحت عملية تغيير النظام أمراً واقعاً، كما لا يعدم هذا التحالف رسالة إلى الدول الضالعة في هذه العملية مفادها أن البديل السياسي للنظام قائم في الواقع السوري، وقادر على ملء هذا الفراغ. وكان الاعتقال لسنوات المصير الذي سينتظر قيادات إعلان دمشق، وخصوصاً تلك المنبثقة من المجلس الوطني لإعلان دمشق الذي عُقد في 2007. سيخرج النظام من أزمته آنذاك، وستستتب له الأمور داخلياً وخارجياً حتى قيام الثورة التونسية، بداية ما سمي ب «الربيع العربي». اليوم، ومع دخول الانتفاضة السورية شهرها السادس، غدا للمحتجين «ذاتية» يعتدون بها، استمدوا عناصرها من تجاربهم التي تراكمت خلال هذه الأشهر ومن الوقائع التي صنعوها على الأرض. وهذا ما سيلزم المعارضة التقليدية بجهود كبيرة ومضاعفة إذا ما أرادت البقاء على قيد الحياة، فهي الآن في واقع جديد تجاوزها تنظيمياً ولا تستطيع أيديولوجياتها أن تكون مرجعاً له. تعكس كلمة منسوبة لميشيل كيلو في مؤتمر سميراميس جانباً كبيراً من الأزمة بين المعارضة والمحتجين، قال ما معناه: عندما كنا وحدنا لم نقدم أية تنازلات للسلطة، فلماذا نفعل الآن والموازين قلبت؟ واضح أن هذا الكلام كان رداً على محتجين وصلت الأمور مع بعضهم إلى حد تخوين المؤتمر وأهله، وعلى تصور مشكك ب «السياسة» بصفتها مدخلاً للتسويات المرفوضة. إنها أزمة ثقة على ما يبدو، ولا حل لها إلا أن يرتقي أداء المعارضة التقليدية إلى مستوى الأزمة الوطنية التي تمر بها البلاد، فهل ستفعل؟ * كاتب سوريّ