ما حدث أخيراً في القاهرة من محاصرة آلاف المصريين لمبنى السفارة الأميركية واقتحام بعضهم أسوارها وحرق العلم الأميركي بعد نزعه من فوق السور، والهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي في ليبيا وحرقها ومقتل السفير الأميركي وثلاثة من موظفي القنصلية، احتجاجاً على فيلم مسيء للإسلام أنتجه متطرفون مسيحيون ويهود في الولاياتالمتحدة الأميركية، يستوقف النظر حقاً، ويثير كثيراً من علامات الاستفهام التي تتطلب البحث جدياً في هذا الحادث والتأمل في دوافعه والتحليل لما سيترتب عليه من مضاعفات وردود فعل على عديد المستويات. لا شك في أن الحمية الدينية المتأصلة في النفوس المؤمنة هي التي دفعت بالآلاف من المصريين إلى التظاهر أمام السفارة الأميركية في القاهرة ومئات الليبيين أمام القنصلية الأميركية في بنغازي، والقيام بما قاموا به من أفعال تعبيراً عن الغضب الذي تملّكهم جرّاء ما أحدثه الفيلم الدنيء من رد فعل لدى الذين شاهدوا لقطات منه مدبلجة بالعربية، أو استمعوا إلى من حدّثهم عنه. وإذا كانت المشاعر الدينية مكينةًً في القلوب، فإنَّ العقول يجب أن تكون كوابح للاندفاع مع تلك المشاعر مراعاة للمصالح والمنافع ودرءاً للأخطار التي تضر بتلك المصالح. وفي حالة التظاهر أمام السفارة الأميركية في القاهرة وتمزيق العلم الأميركي ثم حرقه، ثم الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي وحرقها ومقتل السفير الأميركي وثلاثة من موظفي القنصلية، فإن العقلاء يلتمسون مناط المصلحة، ويتساءلون عن مكمن المنفعة، ويتطلعون إلى إدراك الغاية المقصودة، فلا يجدون ما يقنعهم بأن ما وقع كان في مصلحة الإسلام والمسلمين على أي وجه من الوجوه. ما الفائدة إذاً من التظاهر والاعتداء المباشر بتلك الطريقة ورفع الرايات السود التي ترمز إلى جماعة تنتسب إلى الإسلام وتمارس أعمالاً ليست في مصلحة هذا الدين الحنيف في يوم ذكرى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001؟ إن طرح هذا السؤال ينبغي أن يكون مدخلاً لفهم ما جرى، وللوقوف على الغاية التي قصد إليها مَن سارع إلى تلبية النداء الذي وجّه إليه للتظاهر وإلى الاعتداء والحرق المفضي إلى القتل والتدمير للإعراب عن الاحتجاج على الفيلم الذي ألّفه وأخرجه اليهودي الإسرائيلي سام بازيل وشارك في إنتاجه القس الأميركي تيري جونز وعدد من المسيحيين الأقباط المصريين المقيمين في الولاياتالمتحدة. وإذا كان هذا القس معروفاً بكراهيته الشديدة للإسلام وبارتكابه أفعالاً تسيء إلى الإسلام مثل حرقه القرآن الكريم في وقت سابق، وإذا كان مؤلف الفيلم ومخرجه يهودياً إسرائيلياً إرهابياً كارهاً للإسلام والمسلمين، فإن تلك الجماعة المتعاونة معهما من الأقباط المصريين في المهجر الأميركي، معروف عنها أيضاً، عداؤها الشديد للإسلام، وكيدها للمسلمين، وسعيها المستمر لإفساد العلاقة بين أبناء الشعب المصري الذين يجمعهم النسيج المجتمعي الواحد ومطالبتها بدولة قبطية وبطرد المسلمين من مصر. ولذلك كان إنتاج هذا الفيلم لا يزيد إلاَّ في إذكاء نار الكراهية والعنصرية والازدراء بالأديان والمساس برموزها. وهو عمل حقير سفيه لا بدّ من إدانته والتنديد به وبمن يقف وراءه، لكن لا ينبغي أن نفتح له المجال لتحقيق ما يراد منه من أهداف، هي بالدرجة الأولى تفتيت الوحدة الوطنية في مصر وإرباك الوضع في ليبيا في هذه المرحلة الحرجة التي تتطلب تضافر الجهود لتأمين الاستقرار للتغلب على الصعوبات الكثيرة التي تواجه النظامين الجديدين اللذين يعبران حقيقةً عن إرادة الشعبين المصري والليبي، وتفجير الغضب العارم في العالم الإسلامي لشغل المسلمين بأمور مهما تكن، فإنها لن تنال من إيمانهم ولن تمس دينهم الحنيف. وقديماً قيل إن أفعال العقلاء تنزّه عن العبث. لذا لا بد من أن نؤكد في هذا السياق أن ليس من المصلحة إعطاء صورة مشوهة عن الإسلام وعن المسلمين وتكريس الصورة النمطية المتداولة في وسائل الإعلام الغربية وفي دوائر صنع القرار. لقد كانت الحكمة تقتضي إصدار البيانات وكتابة رسائل احتجاج بلغة قانونية رصينة والتظاهر السلمي المنظم، وتوظيف العلاقة الجيدة القائمة حالياً بين الأزهر الشريف والكنيسة القبطية في اتخاذ موقف موحد إزاء هذا الفيلم، خصوصاً أن الكنيسة بادرت فوراً إلى استنكار ما قام به بعض أتباعها الأقباط في الولاياتالمتحدة من الإساءة إلى النبي الكريم. أما الأسلوب الذي لجأ إليه الغاضبون الساخطون المحتجون - ومن حقهم أن يغضبوا ويسخطوا ويحتجوا - فلا نفع يرجى منه ولا أثر إيجابياً يترتب عليه؛ لأن الدولة الأميركية لا دخل لها في إنتاج هذا الفيلم لا من قريب ولا من بعيد، وبالتالي فإن الهجوم على السفارة والقنصلية الأميركيتين، هو في العمق والجوهر، فعل لا ينفع ولكنه يضر بسمعة مصر وليبيا وسمعة المسلمين في العالم. ومما يجدر التوقف عنده أيضاً، المواقف التي اتخذتها الأطراف القبطية في مصر وفي المهجر إزاء ما حدث. فقد دان الأنبا باخاميوس أسقف البحيرة قائممقام البطريرك بالكنيسة الأرثوذكسية إنتاج فيلم مسيء للإسلام ولرسوله محمد (صلّى الله عليه وسلّم) من جانب بعض أقباط المهجر، مؤكداً أن الكنيسة بريئة من أفعال كل من يقوم بتلك الأعمال التي تنطوي على ازدراء للأديان، وقال: «هي جريمة يعاقب عليها القانون وتتعارض مع الخلق المصري الأصيل وتقاليد المسيحية». وطالبت 120 منظمة قبطية حول العالم، السلطات الأميركية رسمياً بوقف عرض الفيلم، مشيرة في بيان مشترك لها إلى أن هذه المنظمات ترفض هذا الفيلم المسيء الى جميع الأديان. فهذا تطور ذو دلالة كان ينبغي أن يستغل بذكاء وحكمة وبعيداً من الانفعال والاندفاع مع العواطف الجياشة، في اتجاه اتخاذ موقف جماعي مشترك بين المسلمين والأقباط في مصر والمسلمين والمسيحيين في البلدان الإسلامية كافة، وفي دول العالم المحبّة للسلام والحريصة على احترام التنوع الديني والثقافي، في الردّ على الفيلم المسيء للإسلام وللرسول الكريم. إن التعبير عن الغضب بحكمة وبمراعاة المصالح العليا للأمة الإسلامية، هو عين الصواب، والاحتجاج بوعي وفهم وبعقل حصيف ضد كل الأفعال والممارسات المسيئة للإسلام، هو الرشد عينه. ولذلك، فإن المطلوب في هذه المرحلة، اتخاذ الأساليب المنضبطة بضوابط العقل والمصلحة حتى يكون الغضب حكيماً والاحتجاج رشيداً، والنتيجة إيجابية. * أكاديمي سعودي