في ذلك الحين لم يكن موتسارت يعرف انه يقترب حثيثاً من نهاية حياته. كان لا يزال في الثلاثين من عمره. وكان واثقاً من ان أمامه عمراً طويلاً يعيشه وانتاجاً كبيراً يحققه. ومن هنا فإن سرعة انجازه لعمله، لم تكن نابعة كما اراد بعض الباحثين ان يقولوا، من احساس بقرب النهاية، بل من الرغبة العارمة في تحقيق التراكم الذي سيؤدي لاحقاً الى ضخامة في الانتاج تسفر عن ذلك «الكيف» النوعي الذي كان موتسارت يدرك، انه قدره الزاهي في عالم الموسيقى، وانه قادر دائماً على انتاجه. ومن هنا عرف عنه في ذلك الحين انه لم يكن ليتردد ابداً في خوض اي مغامرة تلوح له، حتى من دون ان يحسب حساباً. ليس معنى هذا انه كان متهوّراً بالطبع. معناه فقط انه كان فناناً حقيقياً يحس ان ليس له ان يبقى دقيقة من دون عمل، او بالأحرى من دون انتاج. وهكذا حين عرض عليه وكلاء امبراطور النمسا في العام 1786، ان يلحن أوبرا هزلية يتوق الامبراطور الى رؤيتها تقدم خلال اعياد تقام في شونبرون، لم يتردد الفتى المعجزة لحظة. فهو، الذي كان يؤمن ان في امكانه أن يلحن نصوص الدستور الهولندي اذا اقتضت الامور ذلك، لم يكن ليتردد امام اي نصّ. وهكذا حين قرأ النصّ الذي كتبه الشاعر والكاتب الرسمي المعروف في ذلك الحين، ستيفاني لم يتردد لحظة: فهو كان يدرك ان ليس في وسعه إلا أن ينفّذ طلب الامبراطور، ومنذا الذي كان يجرؤ في ذلك الزمن على الا يلبي طلباً لجلالته؟ قال في نفسه: إن النصّ شديد السخف ولكن لا بأس، ستغطي عليه الموسيقى. ثم، تساءل بينه وبين نفسه: من الذي قال ان على النصوص الشعرية التي تلحن الاوبرات بناء عليها يجب ان تكون عبقرية؟ والحال ان جوهر هذا السؤال شكل على الدوام قاعدة في الأعمال الأوبرالية سار على هديها معظم ملحّني الأوبرا الكبار - ولكن ليس، بالطبع، ريتشارد فاغنر الذي آثر طوال حياته ان يقبل تحدّي النصوص الشعرية الكبيرة التي كان يكتبها بنفسه ليضع لها موسيقى تسعى الى التفوق عليها، غير ان هذه حكاية اخرى ليس هنا مجالها -. وهكذا انخرط موتسارت في العمل، وبعد اسبوعين طلع بتلك الاوبرا التي بالكاد يذكرها احد بين اعماله الكبيرة اليوم، اوبرا «مدير المسرح». صحيح ان هذا العمل لم يغب عن مسارح الاوبرا الهزلية منذ ذلك الحين، - وخصوصاً في فرنسا حيث قدمت هذه الأوبرا غالباً في ترجمة فرنسية لوئمت مع الحان موتسارت بعد ان اعاد الكاتبان هاليفي وباتو، صوغ الكلمات، انما من دون ان يضيفا على العمل اي عبقرية إضافية -، لكن احداً بالكاد يمكنه ان يذكره اذا طاول الحديث اعمال موتسارت الاوبرالية. واللافت في هذا كله هو ان موتسارت كتب «مدير المسرح» موسيقياً، في وقت كان يشتغل فيه بكل جدية على واحد من اعظم الاعمال الاوبرالية في تاريخ الموسيقى «عرس فيغارو»، بل سيقال لاحقاً ان موتسارت نحّى هذا العمل الكبير جانباً، لكي ينجز «مدير المسرح» ملبّياً طلب الامبراطور. كما انه ما إن انتهى من العملين حتى انكب لينجز رائعته الاخرى «دون جوان». وهكذا، من الناحية الزمنية تنتمي اوبرا «مدير المسرح» الى العام نفسه الذي انجز فيه موتسارت ذينك العملين الكبيرين. ولكي لا نظلم هذا الفنان العبقري، لا بد من الاشارة الى ان بعض الاجواء الموسيقية في «مدير المسرح» لا تقلّ من حيث الروعة والأهمية عن اعظم لحظات «دون جوان» او «عرس فيغارو». كل ما في الأمر ان الموسيقى في هذين العملين، جاءت رائعة التركيب على النصين الاصليين ومتناسبة مع موضوعيهما، بينما في «مدير المسرح» نلاحظ تفاوتاً في القيمة مذهلاً بين النص واللحن. وهذا ما جعل عدداً من الموتسارتيين الاصفياء يفضلون دائماً فصل موسيقى «مدير المسرح» عن النص وتقديمها وحدها. وهنا لا بد من الاشارة الى ان محاولة هاليفي وباتو، لاعادة صوغ الكلمات، لا تخرج عن هذا الاطار. ومهما يكن الامر، علينا ان ندرك اولاً وأخيراً، ان «مدير المسرح» اوبرا هزلية، وان الموسيقى التي وضعها لها موتسارت تكاد وحدها تقول كل ما في العمل من ابعاد وأجواء... حيث، في لحظة دفق ابداعي استثنائي، وربما انطلاقاً من رغبة عارمة في السخرية من ذاته لاضطراره بين الحين والآخر الى خوض مثل تلك المغامرات، لأسباب لا علاقة لها بالابداع، تمكن موتسارت من ان يكتب موسيقى هي اشبه بجلد الذات: موسيقى تبدو وكأنها تسخر من كاتبها اكثر مما تسخر من الآخرين. ولكأن لسان حال موتسارت هنا، ما قاله شاعرنا العربي الكبير ابو الطيب المتنبي، معتذراً عن مدحه كافور: «وما كان ذلك مدحاً له/ ولكنه كان مجد الورى». المهم في الأمر ان «مدير المسرح» اوبرا موجودة، حتى وإن كانت تنسى لدى تعداد اعمال موتسارت. والمهم ايضاً ان هذه الاوبرا قدّمت في الموعد المضروب بحسب طلب الامبراطور، وحققت من فورها نجاحاً هائلاً على صعيد الإستقبال الشعبي، يعزوه المؤرخون الموسيقيون احياناً، ليس الى الموضوع ولا حتى الى موسيقى موتسارت، بل الى وجود في أداء العمل لاثنتين من كبيرات الغناء الاوبرالي في اوروبا في ذلك الحين: السيدة كافالييري والسيدة لانغي (نسيبة موتسارت نفسه)، حيث ان هاتين المغنيتين شغلتا الخشبة طوال الوقت تقريباً متنافستين بصوتهما السوبرانو لامتاع الحضور. والحال ان الاوبرا نفسها تتحدث، اصلاً، عن تنافس حاد يقوم بين مغنيتين في المسرح نفسه في سالزبورغ تتنافسان للفوز بإعجاب الجمهور، ولكن ايضاً باعجاب مدير المسرح. وأتاح هذا التنافس بين صوتين عظيمين يلعبان اللعبة بهزل رائع، لموتسارت ان يكتب صفحات موسيقية جزلة، وذلك عبر جمل موسيقية شديدة القصر. غالباً ما تقطعها هذه المغنية او تلك تبعاً للموضوع حيث بالكاد تترك واحدتهما للأخرى مجالاً لتستكمل غناءها. وكان هذا هو بالتأكيد جوهر الأسلوب الضاحك في هذه الأوبرا. ولا بد من ان نذكر هنا ان من بين المقطوعات الموسيقية المتميزة التي تلفت النظر في هذا العمل، الافتتاحية التي كثيراً ما تقدم وحدها من بين ريبرتوار موتسارت. وكذلك هناك لحنان كبيران مكتملان تؤديهما المغنيتان تباعاً، في شكل أخاذ ويكاد يقطع انفاس المشاهدين المستمعين. وهناك ثلاثي (تريو) صاخب لا يمكن نسيانه، إضافة الى الخاتمة التي، اذ تستعيد بعض جمل الافتتاحية سرعان ما تستقل بذاتها كقطعة هي الاخرى منفردة. ان هذه القطع هي التي لا تزال تجتذب الرواد حتى اليوم، وخصوصاً في صالة «أوبرا كوميك» الباريسية حيث لا تزال «مدير المسرح» تقدم هناك موسماً بعد موسم، وحيث، على رغم ضعفها تلقى قبولاً كبيراً من الناحية الموسيقية. ووولفغانغ اماديوس موتسارت (1756-1791) كان يتوقع لهذا العمل، على اي حال، هذا النوع من النجاح الخفيف والسريع، حتى وإن كان قد ابدى خلال السنوات المتبقية من حياته (هو الذي مات بعد خمس سنوات من انجاز «مدير المسرح») نوعاً من الندم إزاء اعمال يكلّف بها ويضطر الى انجازها في وقت يكون فيه منهمكاً في كتابة اعمال كبيرة له. ووولفغانغ آماديوس موتسارت، هو ذلك الموسيقي النمسوي العبقري الذي تفتحت مواهبه منذ كان طفلاً صغيراً، وراحت هذه المواهب تنمو وتترسخ خلال عمره القصير فخلّف للانسانية بعض اروع الاعمال في مجالات الاوبرا، والكونشرتو، والسيمفونية لا سيما في مجال الموسيقى الدينية، التي كان آخر انتاج له في اطارها ذلك القداس الذي بالكاد كان انجزه حينما مات في شكل غامض، تاركاً اياه كوصية فنية - روحية استثنائية. [email protected]